أفغانستان: عربون العودة الفرنسية للناتو

TT

مرة أخرى يتجسد على ارض الواقع التوجه الأطلنطي الجديد لفرنسا، فبعد 42 سنة من قرار الرئيس ديغول سحب عضوية بلاده من حلف الناتو، ها هي تعود إليه ثانية على يد سركوزي. عربون المصالحة كان قرار الرئيس الفرنسي إرسال 700 جندي فرنسي لأفغانستان، ورغم أن عودة فرنسا لحلف الناتو كانت قد تمت بصفة جزئية فيما قبل على يد شيراك سنة 1990، إلا أن القرار الفرنسي الأخير بات لا يدع مجالاً للشّك من أن من كانت تتزعم جبهة المعارضة خلال حرب الخليج الثانية وتشكّل مع ألمانيا وروسيا ما سمي آنذاك بمحور باريس ـ برلين ـ موسكو في وجه الهيمنة العسكرية الأمريكية قد انقلبت الآن إلى أحسن حليفة لهذه الأخيرة.

سركوزي هّب لنجدة بوش في الوقت المناسب، فواشنطن أصبحت تعُّد الخسائر التي تتكبدها جيوشها في هذا البلد، وتواجه تهديد الدول الحليفة ككندا بالانسحاب، وهي التي استيقظت فجأة سنة 2006 لتكتشف أنها فقدت السيطرة في هذه الحرب، بعد أن أعاد الطلبان تنظيم أنفسهم بينما كانت هي منشغلة بمستنقع آخر: العراق.

الوقت المناسب هو لفرنسا أيضاً التي تأمل منذ سنوات في مساومة عودتها بتحقيق حلمها القديم بمشاركة الولايات المتحدة زعامة الحلف، تحديداً فيما يخص «الجناح الأوروبي» وتجسيد ما سمي بمشروع «أوروبا الدفاعية» وهو ما يفسر حسب الملاحظون إعلان سركوزي قراره إرسال الجنود لأول مرة في المملكة المتحدة كنوع من الرسالة المشّفرة لواشنطن كي تخفف من قبضتها على الدول الأوروبية كبريطانيا وأوروبا الشرقية التي التحقت منذ سنوات بالناتو تحت الجناح الأمريكي. رؤية سركوزي البرغماتي تنطلق من اقتناعه بان المصالح الآن أصبحت مشتركة، فالناتو الذي تأسس سنة 1949 لمحاربة الهيمنة السوفياتية قد تحول مع انهيار هذا الأخير إلى أهداف أخرى أهمها الآن محاربة ما يسمى «بالإرهاب» وهو نفسه هاجس كل الدول الغربية الآن بما فيها فرنسا، وبما أن الولايات المتحدة أصبحت تواجه صعوبة تبعات الحروب التي دخلتها والمعارضة الشعبية الداخلية التي تكبر يوما عن يوم فإن فرنسا أكثر الدول الأوروبية تسلحاً ترى من المشروع مساومة عودتها لصفوف الحلف. لكن هل التوقيت فعلا مناسب؟ علما أن سركوزي يقدم هدية مثقلة بالرموز لرئيس لم يبق على نهاية ولايته سوى بضعة أشهر، ولم يترك من حصيلة إنجازاته سوى سلسلة إخفاقات سواء على الصعيد الداخلي الذي عرف ارتفاع في معدلات البطالة ومديونية العائلات أو على الصعيد الخارجي الذي عرف اقحام الولايات المتحدة في عدة حروب هي الآن تنهك ميزانيتها وتسيء لقيم الحرية والعدالة التي طالما رفعها قادتها. ألمْ يكن قادراً على الانتظار قليلا ليتمكن من مساومة عودة بلاده للحلف الأطلسي مع الرئيس الجديد سواء كان من الديمقراطيين أو من الجمهوريين؟؟ والأهم من هذا هل تستحق هذه العودة أن تقحم فرنسا نفسها في حرب هي الآن بصدد التحول إلى مستنقع مكلّف وكارثي آخر كما هو الحال مع العراق. فبعد 7 سنوات من وجودها في أفغانستان لم تستطع القوات الأمريكية والجيوش الحليفة لها من السيطرة على أكثر من 30% من التراب الأفغاني رغم مقتل أكثر من 794 جنديا نصفهم من الأمريكان حسب آخر إحصائيات 2008، بينما باقي البلاد لا يزال في يد مجاهدي طلبان. وكل الدلائل تشير إلا أن التفوق العسكري لقوات التحالف لا يجدي نفعا في حرب العصابات التي تجري في التضاريس الوعرة لأفغانستان، وطول المدة وحده سيكون الحاسم في الحرب العسكرية. كما أن إهمال الحلفاء «لخطة مارشال الأفغانية» قد ضّيع عليهم فرصة الفوز بالحرب الأخلاقية، ومصداقيتهم منذ أن دخلوا هذه الحرب تحت شعار محاربة الإرهاب ومساعدة الأفغانيين على النهوض باقتصادهم هي أضعف من أي وقت مضى. مشاريع إعادة أعمار أفغانستان طغت عليها أخبار الفساد والرشوة التي تنتشر في المؤسسات الحكومية وإلى غاية شركات الأمن الخاصة والمرتزقة التي تلتهم نصف الأموال المخصصة لإعادة الأعمار. الحياة الاقتصادية راكدة والأفغانيون لا يجدون إلا زراعة الأفيون ليعيشوا منها حتى أصبح البلد في ظرف بضع سنوات اكبر منتج له في العالم، كما أن قوات التحالف لم تفلح في تكوين أكثر من 40 ألف جندي أفغاني في 6 سنوات، بينما 200 ألف جندي عراقي كونوا في ظرف 5 سنوات فقط.

رغم شرعية المطلب الفرنسي إلا أن الاحتمال الوارد هو أن مشروع سركوزي بتقوية الدور الأوروبي في الناتو قد يفشل تماما مثلما فشلت محاولة شيراك من قبله سنة 1996/ 1997 حين استطدم برفض الولايات المتحدة لفكرة مشروع «أوروبا الدفاعية» وهنا لا أحد يعلم ماذا سيكون مصير التدخل الفرنسي في أفغانستان لان الحرب كما يقول المفكر الإيطالي ماكيفيل «ندخلها حين نريد ولكننا لا نخرج منها إلا حين نستطيع ذلك».