لما راح «الصدر» منه..

TT

العراق ذلك الصندوق السياسي الشديد السواد، لا أحد يعرف ما بداخله وبالتالي لا يستطيع أي أحد توقع ما الذي سيخرج منه أو نتيجة لذلك. الصندوق السياسي العراقي «المجنون» تفوق على صندوق باندورا الأسطوري المعروف بأبو الأشرار. لم تعد خطوط اللعبة واضحة، ولم يعد أطراف اللعبة معروفين. فالصراع في العراق ليس بالضرورة طائفيا (شيعة ضد سنة) أو عرقيا (عرب ضد أكراد)، لأن العراق تحول إلى أرض تصفية حسابات وإبراء الذمم والعهود السياسية بامتياز، وليس الصراع فيها لأجل «مبادئ» أو «قيم» مبادئية. ولعل المعركة التي أطلقتها الحكومة العراقية بقيادة رئيس وزرائها نوري المالكي ضد جيش المهدي وزعيمه رجل الدين الشاب مقتدي الصدر تدخل وبقوة ضمن هذا التوصيف غير المفهوم أبدا في غياب صندوق السياسة العراقي. فنوري المالكي لم يكن ليصل إلى سدة رئاسة الوزراء بالعراق من دون الدعم والتأييد والمباركة المباشرة من قبل مقتدى الصدر شخصيا وجماعته، ولذلك يبدو غير مفهوم أبدا هذا الانقلاب العنيف في المواقف والتمرد على حليف الأمس، وقد يبدو أن الإجابة البديهية لذلك هي أن الحكومة «قررت» عدم السماح لأي فريق خارج منظومة الجيش الرسمي بحمل السلاح وإثارة الفتن، وأن يكون صاحب نهج خاص خارج قالب المؤسسات السياسية المعتمدة، خصوصا أن جيش المهدي كان له خط «مقاوم» واضح وعملي ضد الاحتلال الأمريكي، وإن كان هذا الخط تم تحييده ووقف عملياته العسكرية في أكثر من مناسبة مختلفة بالاتفاق مع الحكومات الحالية والسابقة بالعراق. غير واضح حتى الآن «تكلفة» المواجهة العسكرية العنيفة التي تمت بين المالكي وبين الصدر وتبعاتها ومصير أنصار مقتدى الصدر كجماعة مؤثرة وطبعا موقعه شخصيا على خارطة التأثير بالعراق. كل المؤشرات تشير باتجاه البوصلة الإيرانية؛ فكافة أنواع الحراك الحاصلة في الأجنحة الشيعية السياسية والدينية منها جميعها يصب لصالح إيران، فتفريغ القيادات العراقية والوطنية الميول من قوتها ومصادر دعمها يرجح كفة إيران وأجهزة المخابرات القوية فيها على التأثير وبشكل غير مسبوق داخل كل أروقة صناعة القرار العراقي. المعالجة غير الحكيمة التي حصلت مع جيش المهدي سارعت بتكريس العراق في صورة البلد الواقع تحت وطأة الاحتلال الثنائي؛ احتلال واضح وظاهر الملامح في شكل وجود أمريكا وعتادها وعسكرها، واحتلال إيراني في أشخاص ومجاميع لهم ميول طاغية لها على حساب الكثير من المبادئ والقيم والمواقف الوطنية التقليدية. الحكومة العراقية مطالبة الآن أكثر من أي وقت مضى بإظهار حسن النوايا مع «عالمها» العربي المحيط، الذي أصابته موجات ونوبات من القلق غير المنتهي والمستمر من جراء التطورات غير الحميدة بين العراق وإيران. إذا كان الإقليم الكردستاني انتزع انتزاعا من المحيط العربي، والآن لمدة عشر سنوات لا تدرس اللغة العربية في مدارسه، والهوية التقليدية في هذا الإقليم إلى تغير أبدي، الآن يبدو واضحا أن هناك نهجا صريحا «لفرسنة» الأجزاء الباقية من العراق بمباركة واضحة وصريحة من زعمائه السياسيين. العراق دمر من البعث وأعدم من الاحتلال الأمريكي وجري دفنه من حكامه الحاليين.

[email protected]