أبو مازن يراهن على خديعة كبرى

TT

في الأخبار أن أبو مازن وأولمرت سيعقدان اجتماعاً للمرة الثانية خلال أسبوع وأن أبو العلاء (أحمد قريع) وتسيبي ليفني عقدا خمسين اجتماعاً خلال الأشهر القليلة الماضية. أما ما الذي أنجزته هذه الاجتماعات الغامضة فلا أحد يعرف على وجه التحديد وإن كان الكلام قد تردد أخيرا عن أن الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي يتحاوران حول «إعلان مبادئ» جديد، لم يعرف شيء عن مضمونه. لكن المؤكد أن الاجتماعات مستمرة، والكلام لم يتوقف طيلة الوقت وزيارات كوندا ليزا رايس تتكرر بين الحين والآخر، أما إسرائيل فتتحرك بسرعة مشهودة على الأرض في أربعة اتجاهات أولها وأهمها أنها تواصل توسيع المستوطنات وبناء المساكن الجديدة في مسعى محموم لتغيير خرائط الواقع، ثانيها أنها تواصل تصفية المقاومين وملاحقة المطاردين وإحكام الحصار حول غزة لإنهاك أهلها وخنقهم تدريجياً. الاتجاه الثالث يتمثل في تكثيف جهود اختراق العالم العربي من خلال الزيارات المعلنة (تسيفي ليفني في الدوحة هذا الأسبوع)، ومن خلال الاتصالات السرية التي يشارك فيها مسؤولون إسرائيليون مع مسؤولي الأجهزة الأمنية في خمس دول عربية على الأقل. أما الاتجاه الرابع فيتمثل في الضغوط التي تمارسها إسرائيل سواء لتوجيه ضربة عسكرية لإيران، أو لتشديد العقوبات الدولية عليها، مع الاستمرار في دق نواقيس الخطر التي تحذر مما سمي بالخطر الإيراني على العالم العربي والمصالح الغربية.

إلى جانب الغموض الحاصل في الاتصالات الفلسطينية الإسرائيلية والتحرك الذي تمارسه إسرائيل على تلك الجبهات الأربع فمن الواضح أن الموقف العربي يراوح مكانه وهو ما ظهر جلياً في بيان مؤتمر القمة العربية بشأن القضية الفلسطينية، إذ حصر العرب موقفهم في المبادرة التي أعلنت منذ ست سنوات ورفضتها إسرائيل في حينها، وظلت رافضة لها حتى هذه اللحظة، ومع ذلك فإن بيان مؤتمر القمة تحدث عن أن استمرار الجانب العربي في طرح مبادرة السلام العربية مرتبط ببدء إسرائيل تنفيذ التزاماتها في إطار المرجعيات الدولية.

وفيما علمت بأن الموقف العربي تمت صياغته بهذه الصورة لأن سورية حاولت في اجتماعات القمة دفع الدول العربية إلى إعادة النظر في المبادرة أو سحبها، وهي الفكرة التي استبعدت وعولج الموقف على النحو الذي صدر في البيان.

ما الذي يعنيه ذلك؟ يعني أن إسرائيل وحدها هي التي تتحرك لتحقيق أهدافها. كما يعني أن الموقف العربي مجمد من الناحية العملية، بعد أن أصبح محصوراً في المبادرة التي أطلقتها قمة بيروت من ست سنوات، في الوقت ذاته فإن خيار السلطة الفلسطينية أصبح محصوراً بدوره في استمرار المفاوضات مع الإسرائيليين، ومن ثم الخروج من اجتماع للدخول في اجتماع آخر.

إن شئت فقل إنه من الناحية الاستراتيجية فإن إسرائيل في سياستها الخارجية أصبحت في أفضل أوضاعها النسبية، ولا يزعجها سوى شيء واحد في الوقت الراهن، هو استمرار إطلاق صواريخ المقاومة في قطاع غزة وهو الموضوع الذي تسعى جاهدة إلى احتوائه. وتمارس من خلال بعض الدول العربية المجاورة إيجاد حل له بالاتفاق على التهدئة المتبادلة في القطاع، وفي حدود معلوماتي فإن قيادات المقاومة تمسكت بأن تشمل التهدئة الضفة الغربية أيضاً وليس قطاع غزة وحده. وهو ما ترفضه إسرائيل حتى الآن. وقدمت في الوقت ذاته إغراء آخر تمثل في موافقتها على ترتيب رفع الحصار عن غزة وفتح المعابر، ولكن ممثلي المقاومة رفضوا هذا العرض بدوره، واعتبروه كميناً منصوباً للإيقاع بينهم وبين إخوانهم في الضفة، ولا يزال الوسطاء العرب يمارسون ضغوطهم على قيادات المقاومة في غزة للتوصل إلى التهدئة المنشودة.

إن الجميع يتعلقون الآن سواء في المفاوضات الجارية أو في مساعي التهدئة بأكذوبتين من العيار الثقيل هما: أن إسرائيل لا تمانع في إقامة دولة فلسطينية إلى جوارها في الضفة وغزة. وأن هذه الدولة يمكن أن تظهر إلى الوجود قبل نهاية العام الحالي 2008، وحقيقة الأمر، أن إسرائيل وهي تسوق هذا الوهم وتلوح به للفلسطينيين والعرب، فإنها لم تفكر يوماً ما بشكل جاد في أن تقوم إلى جوارها دولة فلسطينية، ولكي تخدع الجميع فإنها لم تمانع طيلة الوقت في الثرثرة حول الموضوع مع أي طرف فلسطيني أو عربي أو دولي، في حين تواصل العمل على ابتلاع الأرض وخلق الحقائق التي تجعل تحقيق هذا الأمل مستحيلاً.

هذا الكلام ليس من عندي، رغم أنني مقتنع به تماماً ولكنه رأي تبناه باحث يهودي أمريكي مهم، هو هنري سيجمان، مستشار الشرق الأوسط في كلية العلاقات الخارجية الأمريكية، الذي عرض مؤخراً خلاصة لكتابين إسرائيليين صدرا مؤخراً وفضحا هذه الحقيقة التي حاول الجميع إخفاءها.

كتب هنري سيجمان في العدد الأخير من مجلة «لندن ريفيو أوف بوكس» (10/4/2008) مقالته عن كتابي «إمبراطورية الصدفة» لمؤلفه جيرشوم جورنبرج و«أسياد البلاد» لمؤلفيه ايديف روزنتال وعكيفا الدار، وقال إن جورنبرج أكد في كتابه على أنه لم يحدث على الإطلاق منذ عام 67 وحتى الآن أن فكرت أي حكومة إسرائيلية أن تقوم إلى جوارها دولة فلسطينية في الضفة وغزة، وأن تمدد المستوطنات في الضفة لم يكن اعتباطياً، وأنه مخطط ومقصود به أمران، الأول أن تكون هناك استحالة في إقامة كيان فلسطيني في الضفة، والثاني أن يصبح نهر الأردن هو الحدود الطبيعية لدولة إسرائيل. وهذه الفكرة أيدها مؤلفا الكتاب الثاني، روزنتال والدار، اللذان قالا إنه لم يكن هناك خلاف بين الحكومات الإسرائيلية حول فكرة ابتلاع الضفة، وإنما ظل مناط الخلاف بين تلك الحكومات هو كيفية التصرف في فلسطينيي الضفة، فقد كان هناك رأي لا يمانع في منحهم حكماً ذاتياً وجنسية أردنية، وهناك رأي ثان دعا إلى طردهم وراء الحدود باستخدام التطهير العرقي ضدهم. من الوزراء الذين أيدوا هذا الرأي رحبعام زئيفي ورافائيل اتيان «الأول قتل والثاني مات» وأيفي ايثنان وافيدور ليبرمان. أما الرأي الثالث الذي تم ترجيحه في النهاية فإنه تبنى فكرة خلق حقائق جديدة على الأرض، تنمو وتكبر في صمت، دون أن يعلن الهدف النهائي لذلك واعتبر المؤلفان أن هذه السياسة تجنب إسرائيل الانتقاد الدولي في حين أنها تحقق لها ما تريد في هدوء، الأمر الذي يمكنها فرض الواقع الجديد ليس على الفلسطينيين وحدهم ولكن على الرأي العام العالمي أيضاً .

أشار المؤلفان أيضاً إلى أن جهاز «الموساد» أعد تقريراً في 14 يونيو/ حزيران عام 67 بناء على طلب من الجيش، ذكر أن الأغلبية الساحقة من قادة ووجهاء الضفة الغربية تقبل بإقامة سلام مع إسرائيل، وأنهم على استعداد لإقامة دولة بدون جيش، وهذا التقرير الذي تم التكتم عليه اعتبر دليلاً على ضعف هؤلاء، الأمر الذي فتح شهية إسرائيل للاستمرار في ابتلاع الضفة وتخطيط مستقبلها بحيث تضم لاحقاً إلى إسرائيل.

نفى سيجمان في مقالته كل ما قيل عن استعداد إسرائيل لإقامة سلام مع الفلسطينيين أو العرب إذا ما اعترفا بها بعد عام 67، وقال إن ذلك كله «كذب» لا أصل له، حيث لم يكن في نية زعماء إسرائيل سواء كانوا عسكريين أو سياسيين أن يعيدوا الأرض التي احتلوها للفلسطينيين، وإنما كان كل كلامهم عن الانسحاب من الأراضي التي احتلوها في سنة 67 موجهاً إلى المصريين والسوريين فقط.

في العرض تفصيلات أخرى مهمة منها مثلاً أنه ليس صحيحاً أن المستوطنات أقيمت للدفاع عن أمن إسرائيل، لأن إقامتها سببت مشاكل أمنية كثيرة للحكومة الإسرائيلية وإنما كان الهدف من إقامتها هو اجتياح الأرض وابتلاعها، ومن ثم اعتبارها جزءاً من الدولة الإسرائيلية، يمدد من حدودها الشرقية حتى يصل بها إلى شرق الأردن.

ما لم يقله الكاتب إن إسرائيل تخدع أبو مازن وتفاوض السلطة بحديث الدولة الموعودة التي ستقام قبل نهاية العام الحالي. ولا يدهشنا ذلك لأن الذي لابد أن يدهشنا حقاً هو أن يصدق أبو مازن الخديعة ويراهن عليها.