حماس ومصر والقضية الفلسطينية

TT

لا أدري من أين يأتي للقيادات الراديكالية العربية هذا القدر من التعالي والثقة بالنفس والقدرة على استخدام ألفاظ لا تجرؤ إلا دول عظمى في العالم على استخدامها في مواجهة دول أخرى. وبالنسبة لجيلي فقد كنت ممن استمعوا إلى تهديدات عبد الناصر للدول الغربية بأنها تستطيع أن تشرب من البحر الأبيض المتوسط، وما لم يكن كافيا فإن بمقدورها أن تشرب من البحر الأحمر أيضا. كانت مصر كما هي اليوم واقعة في عداد الدول النامية، وكانت كما هي اليوم من الدول التي تعتمد على العالم الغربي في الغذاء والتكنولوجيا، ورغم تاريخ تليد وحضارة عظمى فقد كان مؤكدا أن مصر لم تكن في مقدمة دول العالم. ومع ذلك كان الرجل حاسما وقويا وحاز على تصفيق الأمة كلها من الخليج إلى المحيط لأنه وقف يتحدى ويرفض ويقاوم، أو هكذا كان يعتقد الناس. كما كنت ممن استمعوا إلى الرئيس صدام حسين وهو يهدد بحرق نصف إسرائيل، ومن بعدها عندما وعد بأن تموت الجيوش الأمريكية عند أسوار بغداد. ولم تكن العراق في المرة الأولى بأكثر من بلد خرج توا من حرب ضروس مع إيران، مثقلة بالديون وانهيار البنية الأساسية؛ وفي المرة الثانية كانت بلدا منهكا مرهقا أعياه الحصار والعقوبات الدولية والصراخ بالموتى من الأطفال والمعاناة للمرضى. ومع ذلك حصل الرجل على قدر كبير من التصفيق والهتاف والتحية من عراقيين وعرب؛ وبالطبع حصلت عليها زعامات عربية أخرى في دول لا تزال تتأرجح ما بين العالم الثالث والرابع.

كل ذلك خطر على البال عند مشاهدة المؤتمرات الصحافية التى تعقدها جماعة حماس والمتحدثون باسمها، وهم يمثلون نسخة أقل تنقيحا من تلك التى يقدمها حزب الله في لبنان. وقبل أيام خرج على الناس من يهدد مصر وإسرائيل بخيارات «مفتوحة» كنوع من التهديدات المفضوحة بالاجتياح السكاني أو بالعمليات الانتحارية أو الإرهابية حسب ما سوف يتقرر. لاحظ هنا تلك الحالة المزرية التي وصل لها الشعب الفلسطيني بعد عقود من النكبة والنكسة على الأصعدة السياسية والاقتصادية عن طريق نخب سياسية متنوعة كان آخرها جماعة حماس والجهاد الإسلامي، وكلها بلا استثناء لم تنجح في تحقيق ما حققته كافة حركات التحرر الوطني. وبينما كان للفلسطينيين الحق في لوم العالم كله على ظلمه، والحركة الصهيونية على شراستها وعدوانها، والدول العربية كلها على تقاعسها، فإنه لم يحدث أبدا أن جرى تقييم حقيقى للدور الذى قامت به القيادات الفلسطينية فيما وصلت إليه القضية الفلسطينية. صحيح أنك لا تجلس مع فلسطيني واحد إلا وألقى باللوم على كل الفلسطينيين الآخرين، إلا أن المقصود هنا ليس اللوم، ولا الاتهام بالخيانة بالطبع الذي هو شائع شيوع الهواء بين الإخوة، ولكن التقييم الاستراتيجي للأهداف والقدرات والتضحيات ومقارنتها بما فعلته شعوب أخرى في العالم. فالحقيقة أنه رغم كل العنت والظلم الذي وقع على الشعب الفلسطيني فإنه أتيحت له من الفرص والمساعدات ما لم يتح لشعوب أخرى في العالم. ولاحظ هنا أيضا أن جماعة حماس تقف مهددة ومنذرة على طريقة الدول العظمى بينما كانت هي المسؤولة الأولى عما آل إليه حال الشعب الفلسطيني. فعندما قررت التراجع عن الاتفاقيات التي وقعتها السلطة الوطنية الفلسطينية فإنها لم تحدد أبدا الكيفية التي سوف تتعامل بها مع تبعات الموقف الجديد. صحيح أنها حصلت على الأصوات والهتاف أيضا، ولكن ذلك لا يعفيها من الإفصاح عن الكيفية والوسائل التي سوف تجعلها قادرة على التعامل مع رد الفعل الإسرائيلي أو رد الفعل الدولى أو حتى رد الفعل الإقليمي والعربي. وهي المسؤولة الأولى عن إغلاق معبر رفح لأنها لا تريد دفع ثمن التخفيف عن البلاء الواقع على شعب غزة لو كان الثمن يؤدي إلى التأكيد على شرعية السلطة الوطنية الفلسطينية في رام الله، فسبق التنافس السياسي الحالة الإنسانية البائسة التى وصلت إليها. المدهش في الموضوع أن جماعة حماس وهي في حالة الدولة العظمى هذه تريد أن تخرج من مأزقها بحسابات من العملة المصرية، أو العملات العربية، أو بعملات دولية. فهي تلوم مصر لأنها لا تفتح المعابر مهما كان رد الفعل الدولى، ومهما كانت النتائج المترتبة على علاقاتها مع إسرائيل والولايات المتحدة، وببساطة تريد حماس وهي في حالتها هذه أن تدير السياسة الخارجية المصرية والأمن القومي المصري معها. وفي الوقت الذي تقوم فيه بتقريع القيادات العربية لتقاعسها في نجدة الفلسطينيين الذين لم يتشاوروا معها مرة واحدة فيما هم مقبلون عليه من قرارات كارثية؛ فإنها في نفس الوقت، وفي نفس المؤتمر الصحافي، تطالب الشعوب العربية بالخروج والثورة والإعلان عن الغضب أو باختصار الإطاحة بهذه القيادات المطلوب منها في نفس الوقت تقديم المساعدة. وهي تلوم العالم لأنه يؤيد إسرائيل بينما هي ذاتها التي تعترض على اتفاقيات ساهم العالم في صنعها، وبينما تقرعه على الوقوف صامتا أم الغطرسة الإسرائيلية فإنها تتجاهل مساعدته الطويلة للشعب الفلسطيني.

والعجيب في الموضوع أن حماس تفعل ما فعله نظام صدام حسين من قبل عندما يؤخذ الشعب الفلسطيني كما أخذ الشعب العراقي رهينة يجري المتاجرة بمعاناتها وآلامها. وفي الوقت الذي كان يجري فيه إفساد برنامج النفط مقابل الغذاء ويتم فيه توزيع كوبونات النفط على الهاتفين بزعامة الزعيم المنصور بالله، كانت صور الأطفال المرضى والعاجزين توزع على جميع أنحاء العالم ويتم إقامة المواكب الداعية إلى إنقاذهم. وفي الوقت الذي لا يبدو فيه أيا من آثار المجاعة على وجوه أو أجساد قيادات حماس التي تعاني كلها من سمنة مفرطة، فإنه يجري التلويح والتهديد بثورة الجياع.

والمعضلة بالنسبة للدول العربية المختلفة، ومصر في مقدمتها، أن ما يربط كل هؤلاء الراديكاليين جميعا أنهم يتحركون وفق نمط معلوم. فهم يبدأون دائما بادعاء المواجهة مع إسرائيل، وأحيانا مع منة هم وراءها سواء كانت أوروبا أو الولايات المتحدة؛ وطالما كان الحال كذلك فإن قناعتهم هي أن ذلك في حد ذاته يعطي رخصة للتطاول على كل الدول العربية الأخرى باعتبارها متقاعسة عن المهمة المقدسة. وليس مهما بعد ذلك عما إذا كانت المقاومة لا تزيد عن قدرة على الإيذاء، أو أنها لا تحقق أهدافا إستراتيجية تذكر، أو أنها تؤدي إلى ضياع البلاد أو تقسيمها؛ فالمهم في النهاية هو إثبات الموقف وليس تحقيق النتيجة. مثل ذلك ناجم عن حالة من الفراغ الفكري والاستراتيجي في المنطقة، وانشغال دول عربية كثيرة بمهام البناء الداخلي ومعضلاته، وذيوع حالة من الفائض الإعلامي يستطيع فيها كل متحدث رسمي مهما كانت حقيقته أن يحصل على عشرات من المحطات التلفزيونية الجاهزة دوما لتلقي التصريحات النارية والعاجزة دوما عن التساؤل عن القدرات والإمكانيات، والجاهزة دائما للتصفيق والهتاف. والمأزق أن هؤلاء الذين يقومون بكل ذلك لا يلبثون أن يقودوا شعوبهم إلى الكارثة، وساعتها تجد الأمة بين يديها نكبة إضافية لا تعرف كيف تتعامل معها، يجلس فوقها راديكاليون آخرون يبتكرون قدرات إضافية على جر الأمة إلى كوارث أخرى. فيا أيها السادة في جماعة حماس تواضعوا يرحمكم الله ؟!.