خَمسٌ..«ما حمَلْت مِنْ الأوزارِ»!

TT

قبل سبع سنوات كان السياسي العراقي، المعارض السابق واللاحق، غسان العطية يواجه عبر شاشة فضائية «الجزيرة»، من الخارج، أحد الحزبيين البعثيين من الداخل. العطية ينتقد مجريات الأمور في ظل دولة البعث، والحزبي يذب ويدافع محاذراً حذر الغراب، حتى قال له العطية: أقدر ظروفك فأنت في وضع لا تُحسد عليه! وتبدلت الدنيا وصارت المعارضة سلطةً، وتكرر المشهد ذاته، قبل أيام قلائل، وعبر فضائية «العربية»، وإذا العطية يواجه من خارج العراق أيضاً حزبياً من الداخل، وهو المستشار السياسي لرئيس الوزراء. الأول ينتقد والمستشار يذب بكلمات ترتجف بين شفتيه، ولعدم قدرة الرجل على كبت انفعاله تُسمع كأنها وصوصة. وتدريجياً تحولت المناظرة إلى ملاسنة! عاب المستشار على العطية المكوث بالخارج، فأجابه: أنت تحميك ميليشيا فمَنْ يحميني؟! وكرر العطية الكلمات نفسها التي واجه بها محدثه البعثي قبل سبع سنوات، قائلاً: أقدر ما أنت فيه..! بعد رؤية المستشار على الشاشة تذكرت ذلك الرجل وتوتره، المطبوع عليه كما يبدو، في الحوارات العامة، من دون أن يترك بصمة في الأجواء، كي يتولى منصب المستشار السياسي للحكومة، أو منصب سفير، ولحكومة العراق، وبهذا الظرف العصيب! لولا أن الأيام دول! أما مَنْ هم على شاكلة العطية فشأنهم شأن صياد الجواهري (ت 1997) في ما أسفرت عنه دماء الضحايا: «مضى حمزة الصياد يصطاد بكرة.. فآب وقد صاد العشي غرابا»!

عاد بيَّ المشهد إلى خاتم مؤتمرات المعارضة بلندن (14 ديسمبر 2002)، حينها كان هاجس أحد قياديي المؤتمر الوطني العراقي صادقاً، بقياس ما حدث، فامتنع عن الحضور، محتجاً على اعتماد التقسيم الطائفي، وكانت بادرة غير مشجعة لما هو آت. بينما لوح ناشط آخر بإعلان الشيعة وثيقةً، ونال هو، ولم ينل الشيعة شيئاً، أخذ منصباً وأقام بقصر! بينما وجهاء شيعة: معتمرو عمائم، وشعراء نجفيون، ومعماريون، رفضوا التأييد، وعذرهم: أنهم مع إعلان عراقي. عقِبها، ترك العراق أحد عرّابي الإعلان بعد توزير وجيز، للدفاع والتجارة وشتان بين الاختصاصين، وكتب كتاباً، ختمه باعتراف: ما أتى كان أسوأ! ونجده يلف الآن على الجامعات الغربية مبرراً خيبته ونكوصه! على أية حال، بتبدل المواقع تكشفت عمائم ولحى عن طبع عجيب، وللأسف لم يبق لها في واخلي ما كتبته محتفياً: «عمائم دريات» (جريدة المؤتمر 20 ديسمبر 2002)! حيث جهر معتمروها بتصفية الطائفية، وأملوا بازدهار! وحينها أومأت كلمة جلال الطالباني إلى احتلال جديد، وهو يشكر الاستضافة البريطانية مداعباً: «شكراً لمحتلينا القدماء»! أما الجدد فعرض ممثلهم خليل زادة دفتراً من العرقوبيات!

شهور وتسربل المؤتمرون قمصان الحكومة، وأخذوا يذيعون الإنجازات، ولا عيوب ولا إفساد، مثلما تحدث المستشار السياسي، حتى أشار إلى مناظره العطية أنه متأثر بنوايا خارجية، وهي التهمة الأزلية. وقبله سها أحد نواب الأغلبية فصرح: «الاستقواء بأمريكا خيانة»! والمضحك المبكي أن تتوهم الأشياء بهذه السذاجة! مع أنه لم يكن شيئاً مذكوراً لولا الأمريكان! وهذا السفير الإيراني منع فائزا بالتصويت لرئاسة الوزراء، في الانتخابات الأولى! واعتبر وصول آخر خطاً أحمر! فيا ترى كيف أمسى الاستقواء بالأجنبي خيانة؟!

نعم، لا نكون منصفين إذا حصرنا السنوات الخمسَ من «المقامع والنِكال» بما قصدنا من الشخوص، فقد كثر الفاعلون في هذه الدار: الأمريكان أرادوها مقبرة لمَنْ غزا ناطحات السحائب. واقتنصها الإيرانيون ساحة مجانية للهيمنة، القاتل والمقتول فيها من غير جنسهم، وأخذ الثأر من حرب الثمان، ومد بساط ثورتهم المتردية بإيران نفسها، ودول صغيرة وكبيرة تريد موضع قدم، بما فيها النيبال.

لكن، ذلك لا يستر تبدل أخلاقيات المعارضين السابقين، من أهل الدار، ممَنْ حضر خاتم المؤتمرات ولم يحضر: تقديم «الأسباط والأصهار» على العراق، وفساد بلا قيود في الثروات، وما للأكثرية، التي يتحدثون باسمها، سوى توزيع معلبات وأسمال على أرامل وأيتام بمشاهد مهينة عبر الفضائيات! مع أن الأديان والأعراف كافة أشارت إلى كراهة الجهر بالمعونة؟! وتشترط بالمُحسن ألا «تعلم شماله ما تنفق يمينه». زادت (المبرات)، ومراكز (التوعية) وتمكن الجوع! وعَظم الجهل! كنا نعتصم ضد خصمنا لو أن أحد أعوانه قَدم إلى لندن وحجز مطعماً بالكامل لأسابيع! قال صاحب المطعم لزبائنه: «محجوز للسيد»! ويا عجبي لم يُعرف للسيد خيل ومال من قَبل!

حرصاً وخشية من ضياع الآمال، ألا تصدق على العراق حكاية ابن «سارق الأكفان»! الجاعل الناس يترحمون على أبيه..! فالماضيات الخمس! وأعود إلى أبي فرات: «ضقنا بها ضيق السجين بقيده.. من فَرْط ما حمَلْت مِنْ الأوزارِ».

[email protected]