حوار الأديان: المسؤوليات والتحديات

TT

تمهيد: المبادرة وضروراتها:

أعلن الملك عبد الله بن عبد العزيز أخيراً عن مبادرةٍ للتواصل والحوار مع المسيحيين واليهود؛ قال إنه أخذ «الضوء الأخضر» بشأنها من علماء المملكة. وكان الملكُ قد مهَّد لذلك بزيارة الفاتيكان قبل أشهر حيث التقى البابا بنديكتوس السادس عشر، وتحدَّث معه في العلاقات بين الدينين، وإمكانيات التطوير والتضامن في القضايا المشتركة التي تُهمُّ المسلمين والمسيحيين والبشرية كلّها على مشارف القرن الواحد والعشرين. والواقعُ أنّ هذه المبادرة شديدة الأهمية، وبالغة الدلالات لثلاثة أسباب؛ الأول: النهوض والثوَران في سائر ديانات العالم، التوحيدية وغير التوحيدية، بحيث صار واضحاً في العقدين الأخيرين من السنين أنّ القرن الواحد والعشرين، وفي نصفه الأول على الأقل، هو حقبة دينية بامتياز، وعلاقات التنابُذ أو التواصل بين الأديان أثّرت وستؤثّر في الاستقرار وعلائق الأمم والشعوب والدول، ومسائل السلام والنزاع، على مستوى العالَم. والسبب الثاني أنّ العقود الثلاثة الأخيرة تميّزتْ بانشقاقاتٍ ووجوه تمُّرد في أوساط المسلمين، أفضت إلى احتكاكاتٍ كثيرةٍ وحساسيات مع الديانات الأخرى، كما كان من مظاهرها الاصطدام الكبير بالولايات المتحدة الأميركية فالغرب في العام 2001 والأعوام التي تلتْ. ولذا فإنّ الأمر يحتاج إلى مراجعات وتشاوُرات وإعادة تقدير للموقف الحاضر، وبين المسلمين أنفسهم، ومع العالَم أدياناً وثقافات، من أجل علاقاتٍ أخرى، وليس للسلام والأمن فقط، بل وللقيم المؤسِّسة للتعايُش والتواصُل مع أهل الأديان، وسائر بني البشر. والسببُ الثالث: أنّ مُطْلِقَ المبادرة ليس قيادة عربية وإسلامية في دولةٍ رئيسية في الشرق الأوسط والعالم وحسْب، بل هو أيضاً خادم الحرمين الشريفين وحاميهما، وهو بهذا المعنى والموقع أكبر المرجعيات العربية والإسلامية في الشأن السياسي العامّ، وفي الشأن الإسلاميّ العامّ. والدليلُ على أنّ الملك والمملكة يحدوهما ويدفعهما هذا الوعي وذاك الإدراك للموقع وضروراته ومسؤولياته، أنه سبق له أن أطلق المبادرة الاستراتيجية العربية للسلام في العام 2002 على أثر أحداث سبتمبر 2001. وقد أطلقها من القمة العربية ببيروت ولبنان، في وقتٍ كانت الولايات المتحدةُ قد غزت أفغانسْتان، وتخطّط لغزو العراق، وبالاشتراك مع الإسرائيليين وجهاتٍ أخرى. لقد كانت لدى المملكة الشجاعة للرؤية الأخرى في الشأن الاستراتيجي العربي رغم حلكة الأجواء، وها هي ـ ومن واقع الضرورة والمسؤولية في المجال الإسلامي ـ تطرحُ الرؤية الأخرى للخروج من الأمرين معاً: أمر الجمود والاستكانة للحصار وسوء العلاقة والقطيعة، وأمر الهياج والثوران في أَوساط الإحيائيين، واللذين يزيدان من الغَرَق في الحُفرة والخندق، ويُضاعفان من الضغوط على العرب والمسلمين، في مجالاتهم المحلية والإقليمية، وفي المجال العالمي العامّ.

مع الكاثوليك: لقد كان ملائماً الاتّجاهُ لمحاورة المسيحيين الكاثوليك، لأنّ لهم قيادة وعنواناً يمكن التوجُّه إليه، ولأنّ الفاتيكان يريد الحوارَ فعلا مع المسلمين ومع اليهود، ومع البوذيين والهندوس. بيد أنّ المسيحية الكاثوليكية، كما أنّ لها ميزات، فإنّ عندها مشكلاتٍ كبرى يحسُنُ التعرُّف عليها للإعانة في وضع جدول أعمالٍ للحوار، وتحديد المشتركات، وحُسْن التوقُّع في المآلات. في الأعوام الثلاثة الماضية على ولاية البابا الجديد لما يُسمَّى بالكرسي الرسولي، ظهرت كل المشكلات دفعةً واحدةً. هناك طبعاً الميزات الثلاث: المركزيةُ الكبيرةُ التي تتمتّعُ بها المؤسسة الدينية الكاثوليكية، وضخامة حجم الكاثوليك في العالم؛ إذ هم يشكِّلون حتى اليوم أكثر من 60% من مجموع المسيحيين. والميزة الثالثة: عدمُ وجود ثَوَران ظاهر أو تمرد على الكنيسة في أوساطهم. والواقعُ أنّ الكاثوليكية غير الفاتيكانية ظلّت غير ممكنةٍ حتى الآن، ومنذ العصور الوسطى المبكّرة. فأيُّ دينٍ من الأديان إنما هو طريقٌ للخلاص. والمؤسسة الدينية عند الكاثوليك هي الأداةُ الوحيدةُ والحصرية لتحقيق الخلاص. والذي أو الذين يحاولون الخلاصَ من غير طريق المؤسسة المركزية تُخرجُهُمُ المؤسسة منها. وقد كانت تعمدُ للعنف في الإخراج أو القمع أو الإبادة في العصور الوسطى، وهي في الأزمنة الحديثة لا تستطيع غير الإعلان عن الخروج أو الإخراج. ولذلك تتحول كلُّ معارضةٍ للبابا وعصمته وقراراته إلى انشقاق، وأكبر الانشقاقات كما هو معروف الانشقاق البروتستانتي في القرن السادس عشر والذي صار شبه دينٍ آخَر، وهو ما يزالُ على تمدُّده وثَوَرانه، وهو أكبر الانشقاقات في المسيحية حتى اليوم، لكنه ليس الوحيد. فهناك الانقسام الأقدم (والمستمر) إلى أرثوذكس وكاثوليك (1055م)، وهو في الأصل ليس انقساماً عقائدياً، بل خلافٌ على موقع أسقُف روما في الكنيسة والمسيحية بشكلٍ عامّ، ولمن الأولوية: لبطرك القسطنطينية أم لأُسقف روما؟ وبدون استطرادِ أطول؛ فإنّ  قوة المؤسسة الكهنوتية كانت دائماً ميزةً للكاثوليك، ومشكلةً في الوقت نفسِه. ففي عدة فترات تاريخية مثل القرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين، والفترة الحاضرة، ووسط الثوران والتمدد والاختراق في أكثر الديانات الأُخرى، تشعُرُ القيادة الكاثوليكية أنّ كلَّ الآخَرين ـ وبسبب الجمود والمحافظة وعدم الإصغاء أو التلاؤم مع المتغيرات ـ إنما يتمددون على حسابها. فالشِيَعُ البروتستانتية الكثيرة تنتشر في شرق أوروبا الجديد والبلقان، على حساب الكاثوليك والأرثوذكس معاً. لكنّ الأفظَع الانتشار الواسع للبروتستانتيات أو كنائس الإنجيليين الجدد في الموطن الرئيسي الثاني(بعد أوروبا) للكاثوليكية وهو أميركا اللاتينية. أمّا في الشرق، موطن بزوغ المسيحية القديمة؛ فإنّ الانحسار المسيحيَّ ـ والكاثوليكي على الخصوص ـ لا تُخطئُهُ العين. وقد أفادت كلٌّ من الكاثوليكية والبروتستانتية من التمدد والاختراق على حساب الأورثوذكس في القرن التاسع عشر، لكنها الآن، بل ومنذ عقود في انحسارٍ مستمرٍ بالتضاؤل وبالهجرة. أمّا البروتستانتيات (وبخاصةٍ الجديدة) فقد ربطت مصيرها الروحي والرسالي في موطن المسيح بالدولة اليهودية، الضرورية لتحقُّق نبوءة عودته(!).

بيد أنّ مشكلة الكاثوليكية الأعمق والأبقى كانت وما تزال الانحسار التاريخي والانكماش بداخل أوروبا القديمة. فقد واجهت الكاثوليكية بأوروبا ثلاثة أعداء ألدّاء: الانشقاق البروتستانتي، والدولة القومية، والدنيوية العلمانية المستشرية. وعندما انسحبت قسْراً من المجال العامّ تراجع عداءُ الوطنيات لها بعد الحرب الثانية، لكنّ البروتستانت (والديانات الآسيوية) والعلمانيات، استمرت على صراعها معها وتمدُّدها على حسابها، بعد الحرب الثانية وحتى  الآن. ويُضافُ لذلك ما شعرت به الكنيسة من خيبة أملٍ وغدرٍ لأنها لم تتلقَّ الثمن المرجوَّ لتحالُفها مع الولايات المتحدة منذ  مطلع الثمانينات، لإسقاط حلف وارسو لصالح الحلف الأطلسي تحت شعار «الإيمان والحرية»! واصطدام البابا بنديكتوس السادس عشر خلال ولايته القصيرة بالجميع: بالبروتستانت الذين يهاجمون الكاثوليكية ويتناهشونها في الدين والسياسة (حلفاء الرئيس بوش الابن)، ولا رأس لهم يمكن التفاهُمُ معه. وبالأرثوذكس، الذين شعروا أنه لا يحسبُ لهم حساباً بما فيه الكفاية، ولا يهتم بالوحدة المسيحية (المسكونية) مثل سابقيه، ثم هو يتقدم مثل البروتستانتيات على حسابهم في شرق أوروبا والبلقان. وبالصينيين، لأنه لا يقبل بإشراف الدولة الصينية على الكنيسة الكاثوليكية الصغيرة هناك. بل وبالهندوس لتعصُّبهم على القلة الكاثوليكية بالهند. وبالبوذيين لإقبال البورجوازية الغربية الكبيرة على تلك الديانة الشرقية الغامضة، وانسحار ذوي الأمزجة الخاصة بالدالاي لاما وأشباهه. وما وفَّر البابا الإسلامَ في محاضرته الشهيرة بجامعة ريغنسبورغ (بألمانيا الاتحادية في 12 سبتمبر عام 2006)، وفي تصرفاتٍ سابقةٍ ولاحقة. لقد كان معروفاً عن البابا (عندما كان مطراناً لميونيخ بألمانيا) نفوره من هجمة العمال الأتراك على أوروبا، وانزعاجه من حجاب النساء المسلمات. وهو ما يزال قلقاً من نموّ أعداد المسلمين في أوروبا. لكنه في المحاضرة السالفة الذكر، ما أبدى خشيته من المسلمين، بل من الإسلام نفسِه، باعتباره (أي الإسلام) يضعُ الإيمان في مُواجهة العقل، ويؤثِرُ العنفَ في حلّ المشكلات. وقد أوضحتُ في دراستي بجريدة «الشرق الأوسط» وقتَها أنه غيرُ مُحِقٍّ في الدعوى الأولى، وأنّ الدعوى الثانية تصحُّ على الكاثوليك كما تصحّ على المسلمين في بعض فترات تاريخهم. أمّا مسيحية أوروبا، فخصمه فيها ليس الإسلام، بل العلمانية بالدرجة الأولى، والبروتستانتيات بالدرجة الثانية. ولا شواهد لإقبالٍ كبيرٍ من جانب الكاثوليك على الإسلام، والكثرة الساحقة من الجاليات الإسلامية بأوروبا والأميركتين من أصولٍ إسلاميةٍ وعربية، وليس نتاج تحولٍ مسيحيٍ كاثوليكي أو غير كاثوليكي إلى الإسلام! وقد قرأتُ في جريدة «لوموند» الفرنسية قبل أسبوعين مقالة على صفحةٍ كاملةٍ تتحدث عن 150 إلى 200 مسلم يعتنقون المسيحية في فرنسا في العام، ويهتمُّ لهم رجالات الكنيسة الكبار، وقد قام البابا بنفسه بتعميد أحدِهِمْ! ثم إنّ البابا نفسَه راجع سلوكه (ولستُ أدري إن كان قد راجع أفكاره) بشأن الإسلام، فزار تركيا وغيرها من الدول الإسلامية، وأيَّد دخول تركيا للاتحاد الأوروبي بعد أن عارضه، وركّز في حديثه مع الملك عبد الله على وجوه المشتركات والتواصُل والتضامُن والشراكة.

وعلى أيّ حال، فهناك عوامُل موضوعية وأخرى شخصية، في الاختلاف بين البابا الحالي والبابا السابق في العلاقات مع الأديان الأخرى، وفي الإدراك للدَور العالمي للمسيحية. كان البابا يوحنا بولس الثاني شخصيةً كازماتية، مندفِعة، قد لا تتلاءم في الظروف العادية مع التقاليد العريقة والمحافظة للمؤسَّسة. وقد سمّاهُ صديقُهُ البابا الحالي (الذي عينهُ يوحنا بولس رئيساً لمجمع الإيمان الذي يتولى تحديد العقيدة الصحيح!): القائد والشاعر! لكنه، أي يوحنّا بولس الثاني، بدا مُناسِبَ الحضور، وتاريخيَّ الشخصية حين تولّى الكرسيَّ الرسوليَّ أواخِرَ السبعينات من القرن الماضي. فقد كبحَ جماح شبان المؤسَّسة بتعيين الكاردينال راتسينغر (البابا الحالي)، بشخصيته المحافِظة، رئيساً أو أميناً لمجمع العقيدة أو الإيمان للحفاظ على التماسُك وقوة القبضة، وانطلق هو ـ متحالفاً بالتطابق أو بالاتفاق مع الولايات المتحدة وإدارة ريغان ـ لدحر اُلشيوعية وإسقاطها انطلاقاً من بولندا الكاثوليكية. ولاقاه المسلمون بالذهاب عبر أصولييهم للكفاح ضد الشيوعية في أفغانستان، كما لاقاه العرب بالإعراض التدريجي عن الاتحاد السوفياتي مثل مصر والعراق والجزائر .. وسورية وليبيا والسودان. وهكذا تلاقت دياناتٌ ثلاثٌ كبرى هي الكاثوليكية والبروتستانتية والإسلام، وبقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا في عهد مارغريت تاتشر، على ضرب الاتحاد السوفياتي وكتلته باسم الدين والإيمان تارةً، وباسم الحرية والديمقراطية تارةً أخرى! وانتظر الطرفان العربي الإسلامي، والكاثوليكي، الاشتراكَ في قطف الثمار. بيد أنّ الذي حدث كان عكس ذلك تماماً. اندفعت الدولة الأميركية البروتستانتية الروح ثم القيادة، باتجاه أوحديةٍ قطبية، مكتسحة الكاثوليك والعرب والمسلمين جميعاً. شنوا حرباً عالمية على العراق بعد غزو الكويت، ثم حاصروه... إلى أن احتلوه عام 2003. وانتهت مساعي التسوية والسلام في فلسطين بمقتل إسحاق رابين عام 1995. وحلّت محلَّ الشيوعيات والديكاتوريات في شرق أوروبا والبلقان وأميركا اللاتينية التشرذمات وانتصارات السوق المدمِّرة والناشرة للفقر والبؤس ومعهما البروتستانتيات الجديدة. وفي حين انكفأت الأنظمة العربية والإسلامية لاعقة جراحها، تعملقت الأصولية العربية والإسلامية وانتشرت تشقُّقاتُها إلى حدود مهاجمة الولايات المتحدة في عُقر دارِها. أما البابا يوحنا بولس الثاني فقد ساح في العالم طوال التسعينات مُكافحاً الفقر والبؤس والأوحدية والعولمة، وداعياً للحرية والعدالة، وناعياً على الغول البروتستانتي، ومقترباً أكثر من المسلمين، وكانت آخِر مواقفه قبل الغياب والوفاة: معارضة غزو العراق، والعدالة والسلام للقدس وللشعب الفلسطيني!

وقضى البابا الجديد عاماً وأكثر حتّى أطمأنّ به الحالُ على كرسيّه السامي. فقد اعتاد حرفة الأستاذ واللاهوتي الحريص على التقليد وعلى صحة العقيدة. وفي الوقت الذي كان فيه الأميركيون والإسرائيليون يحاولون معالجة مشاكلهم القديمة والمستجدة مع إيران وفي العراق وفلسطين، كان هو مهتماً باستيعاب التوترات داخل الكنيسة الكاثوليكية على غير مقاييس صحة العقيدة، كما كان يفكّر كيف يتعامل مع الديانات الأخرى بدون تدقيقاتٍ لاهوتيةٍ أدت إلى صِدامه معها بشكلٍ مباشر. وكان أولا وآخِرا يحاولُ التأثير في النقاشات بشأن الهوية الأوروبية، والوثيقة الدستورية أو شبه الدستورية للاتحاد الأوروبي، ومن مدخل الهوية المسيحية للقارّة العتيقة. وعندما زارهُ الملك عبد الله بن عبد العزيز بالفاتيكان في العام الماضي، كان موقفُهُ – ونتيجةَ صِداماتِه في العامين السابقين ـ قد بدأ يعودُ إلى وسطيته، مستنداً إلى المجمع الفاتيكاني الثاني (1962 ـ 1965) الذي أسَّس لعلاقاتٍ جديدةٍ مع الديانتين الإبراهيميتين الأخريين، كما توهَّج لديه الاهتمامُ بالأصول الرمزية للمسيحية في فلسطين والشرق. فالصراعُ على فلسطين له عدةُ أوجُه، منها القومي والسياسي، ومنها الجغرافي والاستراتيجي، لكنْ منها أيضاً الرمزي والديني. ومن هنا جاء تجدد الاهتمام بفلسطين وبلبنان، وجاءت معهما المشتركاتُ بين الكاثوليك والعرب والمسلمين. وقد حاول الفاتيكانُ (بالتعاون مع أوروبا الكاثوليكية: فرنسا وإسبانيا وإيطاليا) التدخُّلَ إلى جانب العرب الكبار (السعودية ومصر والجامعة العربية) من أجل حلّ الاشتباك في لبنانَ وعليه، وانتخاب الرئيس الكاثوليكي الوحيد في الشرق الأوسط، وهو الرئيس اللبناني. وما نظر الأميركيون لذلك بترحابٍ ظاهر إلى أن اشتدّ ضيقُهُم من الأدوار الإيرانية والسورية بفلسطين والعراق ولبنان. بيد أنّ هناك استعداداً فاتيكانياً مستجداً للتعاوُن من خلال المدخل العربي والمبادرة العربية للسلام في السنوات القادمة، ومن خلال تهدئة الأوضاع لصالح المسيحيين وبقاء الدولة في لبنان، ومن خلال التعاوُن  مع المسلمين (الأتراك والعرب) لإقامة علاقاتٍ أفضل مع الإسلام المعتدل (مع أنهم لا يحبون هذه التسمية الآتية من عند الأميركيين).

المسلمون والعرب: الحوار وتحدياته: لدى الكاثوليك قيادةٌ تتمثل في المؤسسة الدينية المركزية، وهي قائمة وقوية، رغم كثرة المشكلات. ولديهم مقررات المجمع الفاتيكاني الثاني (1962 ـ 1965) وهي تمثّل استراتيجيةً منفتحةً لإقامة علاقاتٍ مع الأديان الأخرى، وبخاصةٍ الديانتان الإبراهيميتان. ولديهم أيضاً ميراثٌ وتجارب في الحوار مع المسلمين، ومؤسَّساتٌ متخصِّصةٌ ومعاهدُ للدراسات والعلاقات مع الأديان الأخرى، ومنها واحدٌ في الفاتيكان مختصّ بالعلاقات المسيحية / الإسلامية. وقد أصدر معهد الدراسات المسيحية ـ الإسلامية بجامعة القديس يوسف ببيروت (وهي جامعةٌ  كاثوليكيةٌ قائمة منذ العام 1875)، والعامل منذ ثلاثين عاماً، مجلَّدين في بيانات وتوصيات ومقررات اللقاءات والمؤتمرات الإسلامية ـ المسيحية (1954 ـ 2004). وللعرب والمسلمين تجاربُ بالطبع في محاورة المسيحيين البروتستانت (الكنائس الكبرى التقليدية) والكاثوليك. لكنّ الجهة أو الجهات أو الشخصيات التي مارست الحوار مع الطرفين كانت مختلفة، وما أحدثت التراكُمَ والخبرة المطلوبتين. ثم إننا كنا في الغالب ـ وما نزال ـ نستجيبُ لدعواتٍ موجَّهة إلينا أفراداً أو جهات من جهاتٍ مسيحية، ونادراً ما وجَّه العرب أو المسلمون دعوةً لجهةٍ أوجهاتٍ مسيحية للتحاوُر ـ ربما باستثناء المعهد الديني بالأردنّ، والذي أنشئ قبل حوالي العقدين من السنين. وللسعوديين بالذات تجربة في الحوار مع الكاثوليك بين عامي 1969 و1972 فيما أحسب، وقد صدر عنها كتابٌ بالعربية، وينبغي النظر فيما إذا كان الفاتيكانيون قد كتبوا شيئاً عن تلك التجربة في مجلتهم المعروفة: «إسلاميو ـ كريستيانا» آنذاك.

قال الملك عبد الله بن عبد العزيز وهو يعرضُ مبادرته إنه استشار فيها العلماء بالمملكة، ووافقوا. وهذه إشارةٌ إلى أنّ الذين سيُجرون الحوار أو يبدأون فيه إنما هُم العلماء، علماء المؤسسة الدينية. ولدينا نحن المسلمين السُنّة عدة صعوباتٍ ومشكلات في المؤسسات الدينية وخارجها. لدينا الأدوار والرؤى المتضائلة للمؤسسة في دولٍ عربية وإسلاميةٍ كثيرةٍ، بحيث اقتصر أمر ممارساتها على التعليم الديني والفتوى. وهذان أمران خطيران كانت تتولاّهما المؤسَّسات الفقهية للمذاهب الأربعة، من ضمن رؤىً شاملةٍ للإسلام وموقعه في العالم. لكنْ بسبب ظهور الدولة الوطنية الحديثة في ديار المسلمين، واستشراء الأصوليات؛ فإنَّ استبعاد المؤسسة الدينية عن الرؤى العامة والعلاقات مع الأديان والثقافات الأخرى، صار مزدوجاً ـ وقد ضاءل ذلك من حصيلة معرفة الآخر واستثمار ذلك في التعليم والفتوى. فالرؤية المتوترة للعالم ومعه والخوفُ منه واتّهامُه، تسودُ في أوساط عامة المسلمين تبعاً للتحشيد الأصولي. وقد كفّتْ المؤسساتُ الدينية منذ زمنٍ طويلٍ عن العناية بالتعرُّف على العوالم الدينية والثقافية للآخر الحديث والمُعاصر، ربما باستثناء لَعْن الاستشراق وربْطه بالتبشير. ولذلك لم تنشأ في مؤسساتنا الدينية أو الدينية/ الأكاديمية معاهدُ أو أقسامٌ لدراسة الديانات التاريخية والمُعاصرة، باستثناء مادة أو رصيد «ديانات أهل الكتاب».

ولذا فالمفهوم أنّه بالنظر إلى المبادرة وأبعادها وأهميتها؛ فإنّ فريق عملٍ سينشأ أو أنه قد نشأ، ويُشاركُ فيه إلى العلماء خبراءُ بالدين والمسيحيات واليهوديات، وخبراءُ آخرون في السياسات والمتغيرات العالمية يُعينون في اقتراح جدولٍ لأعمال الحوار، وتقديرات بشأن التوقُّعات والنتائج. وحبذا بهذه المناسبة لو ننتهز الفرصة فنُقبل على تكوين أقسامٍ وفِرَق في المجمع الفقهي بجدة، ومجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، ومراكز بحثية في بعض الجامعات وربما يمكن الاستعانة بخبرة المعهد الديني بالأردن ومركز العلوم الاجتماعية بتونس (والذي خاض نقاشاتٍ لسنواتٍ مع الكاثوليك، وأصدر أعمالاً عديدة عنها). فالإسلامُ دينٌ عالميُّ الدعوة، وعالميُّ الانتشار، والمسيحية كذلك. ولذلك فإنّ المسائل والقضايا والتحديات المطروحة اليوم، ستظلُّ مطروحة لآمادٍ وآمادٍ، في قرن الديانات هذا. ولا شكَّ أنّ وزارات الخارجية بالدول العربية الكبرى تملكُ أرشيفاً مهما صغُر للعلاقات مع الفاتيكان، يمكنُ الإفادةُ منه. فصحيحٌ أنّ لهذا الحوار خصوصيته أنه بين الأديان، لكنه لن يكونَ نقاشاً بشأن صحة عقيدة هذا الفريق أو ذاك، بل سينصبُّ على القيم والمشتركات، ويبحث عن إمكانيات التفاهُم في الملفات المشتعلة مثل الأصوليات، والجاليات الإسلامية بالغرب، وقضايا التعاوُن على مستوى العالَم في مكافحة الفقر والأوبئة ومشكلات السكّان والبيئة والأسرة. وقد سبق للمسلمين أن تلاقوا مع الفاتيكان بشأن بعض هذه الموضوعات في المؤتمرات التي كانت تقيمها المؤسساتُ الدولية. وقد عملتُ مستشاراً للصليب الأحمر بجنيف لثلاث سنواتٍ، وكانت لديهم وما تزال مسائل كثيرةٌ يريدون تبيُّن الطرائق الملائمة للتعامل معها في مواطن فعاليتهم بمناطق النزاع والإصابات الإنسانية بالعراق ودارفور والصومال وأماكن أخرى.

البروتستانتيات: ومع أنّ الأمر في أكثر حديثنا يتعلّقُ  بالمسيحية الكاثوليكية، لكنّ البروتستانتيات لا يمكن تجاهُلُها. وتجاربُ المسلمين في الحديث إلى البروتستانت (الكنائس الكبرى) أكثر من التجارب مع الكاثوليك. كما أنّ مشكلاتِنا مع الأصوليات البروتستانتية الجديدة أكبر منها مع الآخرين. والرأْيُ أن نحتفظ بالعلاقات مع مجلس الكنائس العالمي، ومجلس كنائس الشرق الأوسط، وأن نطوِّرها، وأن نُفيدَ من فهم الثوران في البروتستانتية، في فهم الثَوَران والانشقاقات داخل عوالمنا الإسلامية، إذ هناك تشابُهاتٌ وفروق. والتشابُهات تظهُر في أمرين: أنه ليست لدى البروتستانت مؤسسة مقدَّسة للخلاص، وبالتالي لا يُعتبرُ إنتاجُ «كنيسة» جديدةٍ انشقاقاً ـ وأنّ كلَّ الأصوليات الثائرة لديهم تبدأ بقراءةٍ أخرى للنصّ المقدس في العهدين القديم والجديد، كما تبدأ الأصوليات الإسلامية بالعودة إلى القرآن والسنة وقراءتهما بطريقةٍ مختلفةٍ لما هو معروفٌ في تقاليد المسلمين وأعرافهم. أما الفروقُ فأهمُّها أنّ الأصوليات أو الإحيائيات البروتستانتية هي في المآلات عودةٌ إلى الذات، وتركيزٌ على الفرديات والحميميات وهموم تحقيق السعادة الخاصّة، أو الإعداد للسعادة الكاملة التي تتحققُ بعودة المسيح؛ فإنّ الإحيائيات الإسلامية، همُّها القيامُ بالواجب في استعادة الإسلام إلى المجتمع والدولة، والدفاع عنه في وجه الهجمتين عليه: الهجمة المسيحية/ اليهودية، والهجمة المادية/ العلمانية. فالإحيائيات البروتستانتية تحملُ فكرة «الخلاص الذاتي» وهذا هو خَطَرُها على الكاثوليكية/ المؤسَّسة ، مثل خَطَر الديانات الآسيوية التي تحملُ الفكرة نفسَها. بينما لا يرى الأصولي الإسلاميُّ خلاصَهُ الذاتي أو الفردي إلاّ من خلال «الخَلاص الجماعي» إذا صحَّ التعبير. ولذلك يتجه الإسلاميُّ المتطرف للاصطدام بكلّ ما حوله، بينما تنتشر الإنجيليات الجديدة بسلاسةٍ نسبيةٍ وسط المسيحيات والمجتمعات الأخرى، وما فطنت لها السلطات الصينية مَثَلاً إلاّ بعد مُدَّة.

المسألة اليهودية: ومبادرةُ الملك عبد الله بن عبد العزيز تُخاطِبُ اليهودَ واليهودية أيضاً. وقد كان الأَمْرُ سهلاً معهم نسبياً حتى قيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين. ومع أنّ التنظيم الصهيوني ما استطاع استقطابَ المتدينين اليهود في البداية، لأنه كان تنظيماً قومياً علمانياً. لكنّ العقودَ الماضية جعلت من مشروع الكيان مشروعاً للدين اليهوديّ كلّه تقريباً. والدولة الصهيونية في فلسطين اليومَ دولة يهودية، لأنّ الحاخامية الأرثوذكسية هي التي تحدّد مَنْ هو اليهودي، أي الذي يستطيع الاستمتاع بالاعتراف وحقوق المواطنة. وفي اليهودية الحديثة والمعاصرة فِرَقٌ إحيائية كثيرةٌ تقودُها زعاماتٌ كارزماتية، وتتبنّى رؤى توراتية خاصّة. لكنّ ثمانين بالمائة من الـ20 مليون يهودي بالعالَم اليومَ يكادون ينقسمون بالتساوي بين مذهبين: المذهب الأرثوذكسي، والمذهب الإصلاحي. والإصلاحيون كثرةٌ خارج إسرائيل، لكنهم لا يقلُّون حماساً عن الأرثوذكس في العمل لها. فهناك أرثوذكس ينعَونَ على الدولة العبرية الكثير من الممارسات غير التقليدية، بينما تختلطُ لدى الإصلاحيين الاعتباراتُ الدينية للهوية بالاعتبارات القومية والاعتبارات الحديثة.

قطع قيام الكيان الصهيوني، وهجرة اليهود من البلدان العربية إلى الكيان أو أميركا وكندا وأوستراليا وأوروبا، كلَّ صِلةٍ أو حِوارٍ مع اليهود واليهودية. ونشأت أدبياتٌ عربية كثيرةٌ ذات منحى تأصيلي إسلامي أو قومي، تضعُهُم ديناً وبشراً خارج أيّ نطاقٍ للحديث فضلا عن القبول والاعتراف. واقترن في أذهان العرب والمسلمين الحديثُ مع اليهود ولو في الشؤون الدينية والقيمية العامة، بالاعتراف بإسرائيل. وفي العقدين الأخيرين ما رأيتُ يهوداً في اجتماعاتٍ دينيةٍ إلاّ في المغرب، ومرة واحدة في المعهد الديني بالأردنّ. ثم في السنوات الأخيرة في حواراتٍ بين الأديان بقَطَر.

لقد حاول العربُ طويلا أن لا يعتبروا الصراع مع الكيان الصهيوني صراعاً دينياً بين اليهودية والإسلام. لكنّ تصرُّفات إسرائيل ضد الأماكن الدينية المسيحية والإسلامية، وبروز الأحزاب الدينية في إسرائيل، وصعود الأصوليات الإسلامية، غلَّب اعتبارات البُعد الديني للصراع في وعي المسلمين، ثم في وعي المسيحيين العرب.

بيد أن الدين اليهودي يظلُّ في نظر المسلمين ديناً إبراهيمياً، وهو بحكم طبيعته الحصرية وغير التبشيرية، لا يُنافسُ الإسلامَ ولا يتحدّاه. لكنّ الحوارَ مع رجال الدين اليهود إنْ كان، مثله مع رجال الدين المسيحيين، لا بد أن يتطرق إلى قيم الحقّ والعدالة، وهي مشتركاتٌ بين الديانات الثلاث، وسيكونُ الوضْعُ في فلسطين، وحَدَث قيام الكيان، بين موضوعات الحديث، أو مآلها الضروري. إذ ما كانت هناك مشكلاتٌ بين المسلمين واليهود في العصور الوسطى في سائر الجهات التي امتدَّ إليها الإسلام، أو سيطر فيها. وعندما طُرد اليهود من الأندلس مع المسلمين، لجأوا معهم إلى المغرب، وإلى أقطار الدولة العثمانية. والمسالة اليهودية في الأزمنة الحديثة مسألة عالمية بدليل المذبحة الهتلرية ضدَّهم، ومشكلاتهم غير المنتهية بقيام دولة إسرائيل. ولذلك لا يمكنُ أن ينفردَ العربُ بالمسؤولية أو العبء في حلّ المشكلة اليهودية، وإنما ابتلاهُمْ بذلك النظامُ الدوليُّ في حقبة ما بين الحربين، وبعد الحرب الثانية. ولذا فإنّ الحوارَ مع الكاثوليك والبروتستانت سيتضمن ولا شك منذ حلقاته الأولى حديثاً عن المسؤوليات في هذه القضية الخطيرة، والأَولى أن يجري ذلك بحضور ممثّلي الدين اليهودي، وليس بمعزلٍ عنهم كما جرى حتى الآن.

المسيحية العربية والمسؤوليات: عندما نتحدث عن المسيحية العربية؛ فإنّ ذلك يشمل الأرثوذكس والكاثوليك، بيد أنّ الكثرة الساحقة من المسيحيين العرب أرثوذكسية. وقد قادت الأرثوذكسية النهوضَ المسيحي، وأسهمت في الصراع ضد الاستعمار، وضدّ إسرائيل، وفي النهوض العربي. وعانت الأرثوذكسية من التبشيرين الكاثوليكي والبروتستانتي، ثم من فقد أبعادها العالمية بظهور الاتحاد السوفياتي في روسيا الأرثوذكسية، وضياع هوية البلقان. لكنّ المسيحية العربية بعامة تقعُ منذ ثلاثة عقودٍ تحت وطأة الصراعات بالمنطقة، وسوء أنظمة الحكم، وصعود الأصوليات الإسلامية. وما أَقبل المسلمون في النطاق العربي على مُحاورتها مباشرة، بل عادوا فقابلوها ضمن مجلس الكنائس العالمي، ومجلس كنائس الشرق الأوسط. وفي السنوات الأخيرة نشأ الفريق العربي للحوار الإسلامي/ المسيحي، وكانت تجربتُهُ إيجابية، لكنّ المسلمين ما أقبلوا عليه، ولا حظيت نشاطاته بالتشجيع المطلوب. ولذا فإنّ من مسؤوليات المسلمين العرب، وهم يباشرون الحوار مع المسيحية العالمية في مرحلةٍ جديدة، أن يهتموا بشراكة إخوانهم من المسيحيين العرب، الذين تستنزفُهُم الهجرة، ويستنزفُهُم الخرابُ في فلسطين والعراق. ورغم الحيرة والارتباك بين الدين والقومية والدولة في روسيا والبلقان؛ فإنّ هناك تجدداً أرثوذكسياً يحسُنُ التواصُلُ معه كالتواصُل مع المسيحيات الأخرى. والأرثوذكس العرب لهم تجربة زاخرة في المجالين: الأرثوذكسي العالمي، والمسيحي العالمي؛ ولذا فإنّ شراكتَهم للمسلمين العرب مفيدةٌ وواعدةٌ  وضرورة من كلّ النواحي.

لقد عانى العربُ بشراً وديناً وأرضاً ومجتمعات غزواً واستنزافاً لأكثر من عقدين. والمبادرتان السعوديتان للحوار الديني، والسلام العادل، فُرصتان للتجدد الديني، والانفتاح الثقافي، والخروج الاستراتيجي من الاستنزاف والاستضعاف والابتزاز: «أمّا الزَبَدُ فيذهبُ جُفاءً، وأمّا ما ينفعُ الناسَ فيمكثُ في الأرض». صدق الله العظيم.