«قطة وبرنيطة»

TT

يكون المرء في شبابه صحافيا مغمورا ومبتدئا فيذهب إلى مقابلة سياسي ما. وإذا كان حظيظا أو حظوظا حصل على المقابلة وسلَّم وودع. ويعود إلى جريدته ليكتب ماذا قال له السياسي وبماذا خصه وكيف تنحنح. وعندما يكبر الصحافي ويعود إلى ما تقدم من عمر وعمل يشير إلى السياسي الذي كان يتمنى مقابلته «بالصديق» ويخبرنا بما قال هو للسياسي وبماذا نصحه ولماذا اعتذر عن عدم تناول الغداء معه. رجل مشغول.

وفي مناسبات معينة (غالبا تاريخية يا مولاي) تستفتي الصحف سياسيين ومثقفين وصحافيين حول رأيهم أو دورهم في ذلك الحدث أو تلك المناسبة. ويتخذ الذي طرح عليه السؤال وضعاً تاريخياً ويعبس ويتأمل ثم يروي (لنا ولكم ولهم) كيف أنه كاد يستوقف التاريخ ذلك المساء، في حضور والده ووالدته وأبناء شقيقته، لولا أن حدثا جللا اقتضى غيابه. وهو منذ ذلك الوقت في غم وكرب لأنه حاول إنقاذ العروبة والعروبة لم ترد أن تنقذ نفسها. ولذلك اكتفى بأن يشير على جمال عبد الناصر بما يجب أن يفعله. ثم أرسل شقيقه إلى ياسر عرفات يفهمه بأن الوضع شديد التعقيد.

مبالغة للتسلية؟ لا. وصف مختصر لحالة شبه عامة. وهي حالة مرضية في حاجة إلى علاج طبي حقيقي. ولست أمزح إطلاقا. هذه حالة مرضية لا وجود لها إلا في العالم العربي، لأن الصحافة العربية ليس فيها «جهاز مدققين». لذلك يقال أي شيء ويكتب أي شيء ويتحول كل مُستفتى إلى بطل قومي وجندي مجهول في أمة لا تستحق عبقريته وخلقه وتفرغه لأمرين: العمل الوطني والعمل الإنساني.

ماذا كانت عظمة نجيب محفوظ الحقيقية؟ بساطته. صدقه، وإدراكه بأن الحياة رواية نمثل أدوارها ونمضي. ولذلك على الشاهد، أو الراوي، أن يبتعد عن ثقالة بعض أبطاله وفراغ البعض الآخر. وكان الرائع نزار قباني يقول عن بعض ماسكي الأقلام إنهم «قطة وبرنيطة». وسألته مرة ماذا يعني بذلك، فقال إنها ماركة أكياس خيش في سورية.

سئل نجيب محفوظ عن دوره في الثورة أوائل القرن الماضي، فقال الرجل البسيط: «لقد صليت لها. ذهبت مرة إلى المدرسة ترافقني الشغالة. وكان البرد يلسع ساقي تحت السروال القصير. وعندما وصلنا قال لنا البواب إن المدرسة مغلقة بسبب التظاهرات من أجل الثورة. وصليت في قلبي من أجل أن تدوم».