أرض الحماقات

TT

ما الذي يمكن أن يقوله الإنسان بشأن حماقات هذا الهلكوست الجاري في غزة وعموم فلسطين؟ أيمكن تبرير ما يقوم به الإسرائيليون باعتباره عملا من أعمال العدالة، الرد على الصواريخ وعمليات العنف الفلسطينية؟ كلا. فالمفروض في تطبيق العدالة أن يحيق الانتقام بالجاني، وبالجاني فقط لا بأسرته وأصحابه الأبرياء من فعله. هذا ما لا ينطبق على الهجمات الانتقامية الإسرائيلية. فضحاياها في الغالب من الأطفال والنساء وسواهم من الأبرياء. السياسة الإسرائيلية هنا تتنافى مع أبسط قواعد العدالة بما فيها الوصايا التوراتية والتلمودية ومتطلبات الطاهور (اليد الطاهرة) التي يتبجح بها المقاتلون الإسرائيليون.

هل تحقق هذه السياسة الغرض المدعى به الآخر، وهو إعطاء الفلسطينيين درسا لقمعهم وفرض الاستسلام والهدوء عليهم؟ الجواب هنا أيضا بالنفي. لقد مارس الإسرائيليون أسلوب الرد بالقوة منذ الثلاثينات ولم يفلحوا في فرض الاستسلام على عدوهم ولا في تحقيق السلام والطمأنينة لشعبهم. إنه بكل وضوح أسلوب ثبت فشله عمليا. كلما قتلوا قائدا أو خبيرا من المقاومة الفلسطينية ظهر قائد وخبير آخر حل محله. وكلما أوصدوا بابا وجد الفلسطينيون بابا آخر وأسلوبا آخر لمواصلة المقاومة والتحدي.

القضاء على الجريمة وعلى العنف بمعاقبة الجناة أسلوب أصبح يرفضه سائر علماء الجريمة حتى على النطاق الفردي، ناهيك عندما يتعلق الموضوع بالأماني الوطنية والحقوق القومية. من يقومون بإطلاق الصواريخ على إسرائيل لا يلتفتون إلى ما سيعانيه أطفالهم ونساؤهم، بل ستشد المعاناة عزيمتهم على مواصلة العمل. كل ضحية شهيد يدخل الجنة.

ثالثا، هل ستقرب السياسة الإسرائيلية مطامح السلم والتعايش بين اليهود والعرب في المنطقة؟ طبعاً لا. الثأر من القيم العريقة هنا. وكثيرا ما وجدنا بعض الانتحاريين يقومون بعملهم هذا انتقاما لعزيز فقدوه. هذه سياسة تغرس المرارة والكره في النفوس. وهذا ما اكتشفوه عندما وقعوا على كامب ديفد. تصوروا أن الاتفاقية ستفتح لهم قلوب المصريين وأسواقهم. يا لها من سذاجة! هذه سياسة تعمق العداء بين العرب والإسرائيليين، بل واليهود عموما أيضا مع الأسف.

ساسة إسرائيل ليسوا من الجهل بحيث يحتاجون لواحد مثلي يذكرهم بهذه الحقائق. لماذا يواصلون هذه السياسة الدموية إذن؟ بكل بساطة أنهم يمارسونها لإرضاء الرأي العام الإسرائيلي والصهيوني. وهذه مثلبة من مثالب الديمقراطية. اليمين الإسرائيلي واللوبي الصهيوني يتحمل هذه المسؤولية. لقد ولدت الصهيونية كجواب متشنج متسرع لمشكلة اضطهاد اليهود. وستظل تعيش في إطار الأجوبة المتشنجة الآنية لنتائج المشكلة التي خلقتها.

ولكن هناك مثلبة أخرى من مثالب الديمقراطية. استمرار الشتات اليهودي، وبصورة خاصة اللوبي الصهيوني بتأييد سياسات إسرائيل حقا أو باطلا يؤثر بما له من نفوذ في حمل ساسة أمريكا وأحزابها على تأييد إسرائيل حقا أو باطلا. وصلنا الآن إلى ذلك الموقف الذي لا يجرؤ فيه حتى اليهودي الحر على انتقاد سياسات إسرائيل مثلما لا يجرؤ أي عربي من أمثالي على انتقاد السياسات الفلسطينية.