حصار غزة: على مَنْ تقع المسؤولية؟!

TT

لم تتأخر حركة «حماس»، فبعد أقل من عشرة أيام من إنهاء القمة العرجاء الأخيرة التي انعقدت في دمشق، بادرت هذه الحركة إلى تطبيق بعض ما ورد في خطاب افتتاح هذه القمة: «على العرب أن يفكوا الحصار المفروض على غزة» وهي ولأنها اعتبرت هذا أمراً ملزماً: «نفِّذ ثم ناقش» فإنها تحركت للتسخين مع مصر وتهديدها بتكرار ما جرى عندما لجأت إلى اجتياح الحدود المصرية بمئات الألوف من الفلسطينيين المغلوب على أمرهم من أهل هذا القطاع البائس حيث ثبت أن قرار هذا الاجتياح قد اتُخذ في عاصمة «فسطاط الممانعة والمقاومة» البعيدة والعاصمة الأخرى القريبة المتحالفة مع هذه العاصمة.

إنه لم يعد خافياً، إلا بالنسبة للذين يرفضون الاعتراف بالحقائق، حتى وإن هي دخلت إلى رؤوسهم من فتحات آذانهم وعيونهم وأنوفهم ومن مسامات جلودهم، أن «تسونامي» غزة الأول ضد مصر كان مفتعلاً وأنه كان يستهدف صورة هذه الدولة ومكانتها وسمعتها وأن هدفه كان إشغالها بمعركة جانبية لإبعادها عن أزمة لبنان والعراق ولتعطيل دورها الداعم لمنظمة التحرير والسلطة الوطنية في هذه المعركة المحتدمة مع الإسرائيليين التي عنوانها إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة قبل نهاية العام الحالي.

ليست مصر هي المسؤولة عن حصار غزة، لا الآن ولا في السابق، فإسرائيل هي المسؤولة عن هذا الحصار على اعتبار أنها دولة محتلة تلزمها القوانين الدولية النافذة بهذه المسؤولية و«حماس» هي المسؤولة أيضاً لأنها عندما قامت بالانقلاب العسكري الذي قامت به ضد السلطة الوطنية وضد منظمة التحرير والرئيس الشرعي المنتخب محمود عباس (أبو مازن) كانت عاقدة العزم سلفاً على أن تفرض نفسها، بدعم إيران ومساندتها، على الفلسطينيين في قطاع غزة بكل اتجاهاتهم وتنظيماتهم وتكويناتهم السياسية وعلى مصر التي تتحكم بمعبر رفح الحدودي وفقاً لمعاهدة دولية لا تستطيع الدولة المصرية إلا الالتزام بها لأن عدم الالتزام يحولها إلى دولة مارقة ومتمردة ويفتح عليها أبواباً مغلقة كثيرة.

تنص هذه المعاهدة، التي وفَّرت الانتقال من قطاع غزة وإليه والتي أبقت معبر رفح مفتوحاً أمام الفلسطينيين كبوابة حدود دولية حتى انقلاب «حماس» المعروف:« على أن أي إخلالٍ بأحد بنودها يعطل البنود الأخرى كلها تلقائياً وأن انسحاب المراقبين الأوروبيين ولأي سبب من الأسباب يعني إغلاق هذه البوابة وعدم فتح بوابة أخرى بديلة في إحدى نقاط الحدود المشتركة المصرية – الفلسطينية».

لكن «حماس» قد قررت منذ اليوم الأول الذي ألغت فيه السلطة الوطنية الفلسطينية وأقامت سلطتها الشمولية الخاصة أنها يجب أن تفرض نفسها على الفلسطينيين وعلى مصر والدول العربية كلها والعالم بأسره وبالقوة وعلى أساس الأمر الواقع، وهذا ما حصل عندما تم اجتياح الحدود المصرية في يناير (كانون الثاني) الماضي وكان الهدف الرئيسي هو الإساءة للمصريين وإحراجهم وإضعافهم داخلياً لحساب «الإخوان المسلمين» الذين تعتبرهم هذه الحركة الفلسطينية «التنظيم الأم» ولحساب الحلف الإقليمي الذي تقوده إيران.

لم تكن المسألة بالنسبة لذلك الاجتياح المسرحي لا مسألة حصار غزة ولا مسألة جوع أهلها ولا مسألة انقطاع الكهرباء التي هي في حقيقة الأمر لم تنقطع إلا عن بعض أجزائها وبنسبة نحو خمسة عشر في المائة من مساحتها فقط.. لقد كانت هذه المسألة مسألة سياسية، استُخدم فيها أهل هذا القطاع البائس كوقود لإشعال نيران لا تخصهم وليست لهم أي علاقة فيها، ولقد كان هدف «حماس» هو فرض نفسها كدويلة شرعية وهو الانفراد بالسيطرة على معبر رفح الحدودي وإلغاء كل الاتفاقيات الدولية السابقة المتعلقة به والتي أصبح بموجبها بوابة حدود دولية هذا بالإضافة إلى سلسلة الأهداف الأخرى التي في مقدمتها الإساءة إلى مصر وتشويه صورتها وإرباكها وإشغالها بهذا الإشكال الجانبي لمنعها من القيام بدورها المفترض بالنسبة للأزمة اللبنانية والأزمة العراقية وأزمة المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية العالقة في عنق الزجاجة والتي تواصل المراوحة في المكان ذاته وهو دور يتعارض، بل يتناقض، مع دور إيران وحلفائها الذين يصرون على أنهم وحدهم الذين يملكون قرار الحرب والسلام في هذه المنطقة.

لو أن حركة «حماس» فعلاً ضد فرض الحصار الذي فرضته إسرائيل على قطاع غزة ولو أنها تضع مصلحة شعبها فوق مصالحها التنظيمية وفوق مصالح الحلف الذي لا تخجل من إعلان انتمائها إليه فلما قامت بالانقلاب الدموي الذي قامت، به ولما ألغت أي وجود لمنظمة التحرير وللسلطة الوطنية وللشرعية الفلسطينية ولما لجأت إلى مسرحيات الصواريخ الدخانية والكرتونية التي لجأت إليها ولما فعلت كل هذا الذي فعلته ولا تزال تفعله والذي هي مصرة على الاستمرار في فعله.

قبل هذا الانقلاب كان معبر رفح مفتوحاً أمام «حماس» وغير «حماس» وكذلك الأمر بالنسبة لمعبري «إيريتز» و«ناحال عوز» على مداخل غزة من الشمال وكانت لا توجد أي إشكالات بالنسبة لهذا الأمر، وكانت إسرائيل قبل أن تقيم هذه الحركة «دوقيتها» الغزية وتلغي كل الهيئات الفلسطينية الشرعية لا تجد المبرر الذي كانت بحاجة إليه للقيام بما قامت به لاحقاً وبما تقوم به الآن.

إن السؤال الذي يجب أن يُطرح في ضوء تطورات الأيام الأخيرة هو: لماذا يا ترى استهدفت حركة «حماس» معبر «ناحل عوز» الذي هو معبر الطاقة الكهربائية ومعبر المواد الغذائية إلى قطاع غزة.. أليس هذا استدراجا للمزيد من الحصار الذي تستخدمه وقد استخدمته هذه الحركة أداة ضغط على مصر وعلى العرب لفرض نفسها وفرض برنامجها الذي هو برنامج إيران وتحالفها كأمرٍ واقع على الفلسطينيين وعلى كل هؤلاء بالقوة..؟!

قبل مسرحية اجتياح الحدود السابقة كان لا بد من حكاية قطع الكهرباء عن غزة، وكان لا بد من مشاهد الظلام والشموع «المُبصبصة» وسط هذا الظلام التي كانت مُخرجة إخراجاً جيداً والتي تلقفتها فضائيات الندب والمزايدة.. لابتزاز مصر والدول العربية والعالم بأسره.. والآن فإن الشيء نفسه يتكرر، فـ«حماس» هددت باجتياح الحدود المصرية مرة أخرى، ولهذا فإنه كان لا بد من التهيئة لهذا الاجتياح بتوفير الأجواء المسرحية المطلوبة، ولذلك جاء الهجوم على معبر «ناحال عوز» معبر الطاقة والغذاء والأدوية وكل شيء، ولذلك ولأن هذه الفضائيات إياها جاهزة دائماً كالعادة فإنه لم يبق إلا دفع الفلسطينيين تحت ضغط الأسلحة والرصاص نحو الأسلاك الحدودية الشائكة.

كانت حركة «حماس» تعرف أن الحكومة الإسرائيلية لا تستطيع إزاء الرأي العام الإسرائيلي إلا َّ الرد على الهجوم الذي استهدف معبر الكهرباء والغذاء والدواء إلى قطاع غزة وقتل اثنين من المدنيين الإسرائيليين من عماله، لكن ومع ذلك فإنها، أي هذه الحركة، قد فعلت ما فعلته من أجل أن يعم الظلام ولو جزءاً من هذا القطاع المحاصر كي يصبح المسرح جاهزاً وتصبح أجواؤه ملائمة لهذه المسرحية الجديدة التي تعتبر استكمالا لمسرحية الـ«تسونامي» الحدودي السابقة من حيث الأهداف المباشرة وغير المباشرة والسرية والعلنية.