دمي.. ودموعي.. و«بسمتي» !

TT

الغلاء في المواد الغذائية لا يزال موضوعا رئيسيا لدى الأسرة العربية، غطت أخباره أحداث العراق وفلسطين ولبنان. ففي مصر يتعايشون مع أزمة الخبز «الطاحنة» بإطلاق النكات كما هي العادة للتخفيف من وقع الصدمة، فيقولون: إن الرواية الأكثر مبيعا يجب أن تكون «الخبز الحافي» لمحمد شكري، والكل يجب أن يعيد مشاهدة الفيلم العربي «الحب قبل الخبز أحيانا». والحكمة التي يتبعها الجميع هي «أكل العيش يحب الخفية والناس تحب الرجل الدقيق» فمصر باختصار مشغولة تماما بـ«تقليب عيشها!». ودول الخليج العربي لها شكوى أخرى هي أيضا، فالمعاناة هناك لها علاقة بالأرز. ودول الخليج تستورد الأرز، وهو الوجبة الأهم، من دول مختلفة من الهند وباكستان وإيران وأمريكا وتايلند وفيتنام واستراليا ومصر بشكل أساسي، ولكن اليوم ومع الارتفاع الجنوني للأسعار (زادت أسعار الأرز كمتوسط عام في أقل من سنة بما يفوق الـ 148%) وهذا التغيرات الحادة، اتخذت الهند ومصر وفيتنام قرارات عنيفة وغير مسبوقة تقتضي بمنع تصدير هذه السلعة إلا بأسعار تعجيزية تقريبا حتى تكون الأولوية لتلبية الاحتياج المحلي المتزايد. وتايلند هي إحدى الدول القليلة التي لا تزال تصدر ولكن تحت ظروف شديدة الصعوبة، فمزارع الأرز باتت تقع تحت حراسة مدججة بالسلاح على مدار الساعة تخوفا من اللصوص الذين يطمعون في غنائم تسوى الشيء النفيس. وغير مفهومة الزيادة التي طرأت على الأرز الوارد من الولايات المتحدة الأمريكية تحديدا لأنه مسعر بالدولار، ومن المفروض أن لا يتأثر مثل الأرز المصدر من دول تتأثر عملاتها وكلفتها بانخفاض الدولار. وحتى في مصر التي أوقفت تصدير الأرز لجأ الشعب الى هذه السلعة عوضا لنقص الخبز وشحه الشديد، فأدى الى رفع الأسعار المحلية بجنون نظرا لاعتقاد الناس بأن الأرز كنشويات من الممكن أن يحل مكان الخبز من الناحية والقيمة الغذائية. ويتضح أن حجم أزمة الأرز عالمية، وردود الأفعال تتفاوت من مكان لآخر بحسب الظروف، ولعل ما حدث في جزيرة هايتي بالبحر الكاريبي من مظاهرات عنيفة واضطرابات جسيمة سببت بحدوث تلفيات كبرى أدت الى إقالة رئيس الوزراء هناك، كل ذلك يؤكد أن الموضوع جاد ومهم. ولكن من الإنصاف القول أيضا إن هناك خللا كبيرا في حلقات استيراد الأرز تؤدي حتما الى مضاعفة تكلفته وبالتالي رفع أسعاره، وهذا ما يحدث في مراحل تخزينه وشحنه وتغريغه وتعبئته وتوصيله، وهذا نتاج سوء إدارة وهدر كبير. مشكلة الأرز في دول الخليج والخبز في مصر وغيرها لن تنتهي بل هي مرشحة للازدياد، والحلول المطروحة الى الآن هي جميعها مسكنات قصيرة الأجل، لأن السياسات الزراعية الخاطئة التي ما زال معمولا بها لم تراع الأبعاد الاستراتيجية للقمح والأرز والشعير بل تم التركيز على زراعات تدر أموالا «أسرع» وبـ«عوائد أعلى» مثل الفراولة والورد والأفوكادو، نعم هذه المشكلة عالمية ووضع عالمي استثنائي يؤثر على حجم المنتج المتوفر والرقعة الزراعية المتاحة وبالتالي أسعار السلع نفسها، ولكن هناك خللا حتما في اسلوب إدارة التعاطي مع الأزمة، هناك قصور في معالجة أخطاء الماضي وإطلاق استراتيجية لحلول الغد، الموضوع يتخطى كون أنه أزمة «خبز ورز»، فهو في حقيقة الأمر تحد إداري يتطلب فكرا جديدا يمكن من التعاطي مع تحد عالمي يأتي بظروف مغايرة تماما، فالعلاج لا يمكن أن يعتمد على ذهنية من الماضي بنفس المعطيات القديمة. في رحلة أخيرة لي في أحد المطارات العربية العامرة بالأسواق الحرة، وجدت صديقا اشترى لزوجته ساعة ذهبية مطعمة بالماس وأحضر مع كيس رز فاخر جدا، ونظر إلي بأسى اعتقد أنها ستكون فرحة بالثاني أكثر.. هناك أصناف عديدة من الأرز في السوق «أبو بنت» و«أبو كاس» و«أبو دله» ولكن يبدو أن المسمى الذي سيتفق عليه الجميع هو «أبو سعر غالي»!

[email protected]