من سيخسر بانسحاب الأميركيين من العراق؟

TT

عندما بدأت حملة انتخابات الرئاسة الأميركية، في أوائل العام الحالي، اعتقد الكثير أنها ستثير جدلا حادا بخصوص العراق، الذي يعتبره الخبراء الموضوع الأكثر سخونة، إذا لم يكن في الحقبة الحالية، فعلى الأقل في الموسم الحالي. إلا أن هذا النقاش لم يحدث أصلا، وأصبحت وسائل الإعلام الاميركية مزدحمة بالتقارير عن كيفية تلاشي قضية العراق كموضوع للنقاش.

ولكن لماذا ؟

البعض يشير إلى ان المنافسين وأنصار الحرب لديهم مصلحة في اختفاء قضية العراق. ويخشى معارضو الحرب، الذين لا يمكنهم إنكار أن الأمور أفضل الآن عما كانت عليه قبل عام، من احتمال ان يؤدي ذلك إلى إقناع الناخبين بأن الرئيس جورج دبليو بوش كان على حق في النهاية.

فقد ظل معارضو الحرب يدقون ناقوس الخطر بين الحين والآخر طوال السنوات الخمس الماضية بخصوص اقتراب الحرب الأهلية في العراق. (بل ان البعض أكد عشرات المرات ان العراق فعلا يعاني من الحرب الأهلية) وتكهنوا بـ«نهاية العراق»، بما في ذلك تقسيمه إلى كانتونات طائفية. غير ان ذلك لم يحدث، وتحدى العراق كل التكهنات السيئة والجيدة.

ومن ناحية اخرى لم يعد انصار الحرب على ثقة من ان الانفراج الآخر في الموقف في العراق، المعروف باسم «لمسة بترايوس» نسبة الى الجنرال الاميركي الذي يقود قوات التحالف في العراق، ربما لن يستمر حتى إجراء الانتخابات. ويوجد سبب آخر وراء عدم رغبة معارضي الحرب في سيطرة العراق على الحملة الانتخابية. فبالتدقيق في الموقف اليوم، ربما يؤكد تحليل بوش ان الجمهورية الإسلامية في إيران ظهرت باعتبارها أهم مثير للمتاعب هناك. وهو ما يمكن بالتالي أن يؤدي الى نتيجة واحدة: الحاجة إلى اتخاذ خطوات ضد طهران.

ويشارك أنصار الحرب وجهة النظر ذاتها وإن كان لسبب مختلف تماما. فهم يفضلون، بسبب عدم قدرتهم على تحقيق إجماع بخصوص التهديد الإيراني، تلاشي قضية العراق، بالرغم من الاخبار الجيدة الواردة من هناك. وفيما يتعلق بالعديد من معارضي الحرب، فإن قرار إسقاط صدام حسين كان اقرب ما يكون الذنب الأكبر. فيجب خسارة الحرب في العراق لكي يمكن تخفيف مشاعر الذنب لدى المذنبين، على الأقل جزئيا. وليس على الاميركيين الانتظار حتى تتضح نتائج النزاع.

وقرر هاري ريد، زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ، ان الحرب قد «خسرت» قبل عام تقريبا. ولكن كيف يمكن تفادي مناقشة جادة للعراق الآن؟

لدى خصوم الحرب جواب سهل؛ فهم يزعمون ان الحرب كانت غير مشروعة والسبب افتراضا ان جاك شيراك لم يصادق عليها وكوفي عنان عبر عن عدم تأييده لها بعد عامين من حدوثها.

كما انهم يستشهدون بدراسات زائفة تشير الى فقدان مئات الألوف من العراقيين حياتهم نتيجة اسقاط صدام. وقد جرى نسيان حقيقة ان هذه الدراسات، بما فيها الفضيحة التي نشرتها «لانسيت»، دققت ووجد انها زائفة. ومن ثم فإن المرء يمكنه دائما ان يتذكر فضائح ابو غريب والمزاعم ضد الأرباح التي حققتها الشركات الأميركية الكبرى، وأخيرا وليس آخرا، حقيقة انه ما من أسلحة دمار شامل تم العثور عليها في العراق.

وبالنسبة لأولئك الذين ما زالوا يشعرون بألم للإطاحة بصدام فإن التركيز باستمرار على الجوانب القبيحة من السنوات الخمس الماضية يعتبر أفضل سياسة. وكما لاحظ إل بي هارتلي فإن الماضي بلد آخر، فهناك يفعلون أشياء على نحو مختلف.

وإذا ما كان خصوم الحرب يحولون على الدوام التركيز إلى الماضي فان مؤيدي الحرب يردون بإضاءة أحداث المستقبل الافتراضي. وهم يواجهون شكاوى خصومهم ببعض شكاواهم.

وكاتالوغ الكوارث التي يتكهنون بها يمكن أن يكون على النحو التالي: إذا ما تخلت الولايات المتحدة عن العراق الآن فإن الإبادة الجماعية مقبلة، فـ«القاعدة» ستنتعش، وإيران ستستفيد إلى حد كبير، وسيصبح الشرق الأوسط منطقة عدم استقرار، وكلمة أميركا ستكون بلا قيمة، وما إلى ذلك. وكل ذلك، بالطبع، قد يحدث، وقد لا يحدث. ونحن ببساطة لا نعرف. وكما هو حال الماضي في قول هارتلي المأثور، فان المستقبل أيضا بلد آخر. فهناك لا تفعل الأشياء إلا بعد أن تكون قد حدثت.

من ناحيتي لا أعتقد ان مغادرة الأميركيين العراق ستؤدي الى إبادة جماعية. فالعراقيون ليسوا قبائل الهوتو والتوتسي، أو الصرب والكروات. والحرب الطائفية التي شهدناها هناك قبل عامين كانت حرب طائفيين وليست صراعا وضع جارا ضد جار، كما كان الحال في رواندا أو يوغوسلافيا السابقة، ولا أعتقد أيضا أن تنتعش «القاعدة».

وحتى اذا ما رحل الأميركيون قبل أن يتعزز عراق جديد فإن «القاعدة» في العراق قد كسر ظهرها. وإذا خسرت القاعدة الشعبية التي كانت تتمتع بها سابقا في أجزاء من العراق السني، فمن غير المحتمل أن تستعيد أفق الفوز بالسلطة في أي مكان من بلاد ما بين النهرين.

ولا أعتقد أن ايران ستستفيد أيضا، بل على العكس من ذلك، قد تجد نفسها وهي تحمل بعض الأعباء التي تتحملها الولايات المتحدة في العراق. وانه بالنسبة لدولة ضعيفة وهشة مثل الجمهورية الإسلامية، تواجه، على نحو متزايد، تحديات كبيرة في الداخل، لا تبدو مستفيدة.

هل ستصبح منطقة الشرق الأوسط أقل استقرارا إذا غادرت الولايات المتحدة بصورة نهائية ؟.. لا أحد يعرف.

ساعدت الولايات المتحدة على وضع بعض التوتر تحت السيطرة. لذا فإن مغادرتها ربما تؤدي إلى عودة هذا التوتر مرة أخرى، وهو أمر ربما يؤدي إلى حروب إقليمية. لكننا نعرف انه حتى إذا كانت هناك حرب رئيسية، مثل تلك التي خاضها الخميني في مواجهة صدام حسين خلال عقد الثمانينات، ربما لا تؤثر بالضرورة على توازن القوى بصورة عامة. وعلى أية حال، لماذا يهتم الاميركيون إذا أرادت دول الشرق الأوسط تبديد مواردها المالية في تقليد دول أوروبا غير الناضجة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين؟

حتى الحجة التي تتركز حول أن أي انسحاب اميركي سابق لأوانه سيكون بمثابة خيانة الولايات المتحدة لتعهداتها ليست حجة قوية كما تبدو. إذ ان الغالبية تدرك كيفية عمل النظام الاميركي ولا أحد يمكن ان يبني في ذهنه استراتيجية كاملة حول افتراض الدعم غير المحدود من واشنطن.

يدرك سكان منطقة الشرق الأوسط وغيرها ان الإدارة الاميركية تتغير من خلال الانتخابات وان أولوية الحزبين الديمقراطي والجمهوري على حد سواء تكمن في الوصول إلى البيت الأبيض وليس في إراحة الحلفاء الحقيقيين أو الافتراضيين.

الولايات المتحدة تخلت عن حلفائها في فيتنام الجنوبية ومعسكرات الاعتقال ومحنة لاجئي القوارب. الولايات المتحدة أوصدت أبوابها في وجه شاه إيران الذي كان حليفا لها على مدى فترة طويلة، وعقب السماح له بدخول الولايات المتحدة لأسباب صحية طردته على نحو مذل، رغم كل ذلك لم يكن هناك شعور بتدني قيمة كلمة الولايات المتحدة.

معرفة السبب في هذا التضارب الواضح ليست صعبة. إذ يتوقع ان تظل القوة الاقتصادية والعسكرية والثقافية للولايات المتحدة متفوقة على مدى المستقبل المنظور.

الأمر الأكثر أهمية هو أن الولايات المتحدة ظلت في غالبية الأحيان تتصرف على نحو من قوى رئيسية أخرى. كل القوى الكبرى تخون الأطراف الأخرى لأنها لا تملك أصدقاء دائمين بل مصالح دائمة. الولايات المتحدة كانت أقل خيانة.

الجدل الإيجابي الوحيد حول العراق يفترض ان يركز على ما يحدث الآن وليس على ما حدث قبل خمس سنوات أو ما سيحدث بعد خمس سنوات.

فما يحدث الآن هو الذي يجعل العراق يستحق ان يقاتَل في سبيله، ليس فقط من أجل الاميركيين وإنما من أجل كل الذين يحلمون بشرق أوسط مزدهر وحر يحترم التعددية.

وهذه قضية يجب تناولها في مقال آخر.