معاً من أجلنا جميعاً

TT

أولاً: دأب المسؤولون الإسرائيليون على أن يرفعوا أصواتهم فوق دوي مدافعهم مرددين ضرورة قيام الدول العربية بتطبيع العلاقات معهم فوراً ومن جميع النواحي. وفي نفس الوقت فإنهم يلجأون من جانبهم إلى أسلوب فريد في التطبيع يقوم على تثبيت الاحتلال، وحصار ما لا يحتلونه واجتياحه من وقت لآخر، والقتل والتدمير والتجويع والحرمان من كل وسائل الحياة، كأنهم يريدون استفزاز الضحية، وعدم الاكتفاء بتعذيبها وهي مكبلة حتى يكون غضبها إما عاجزاً أو مدمراً، فيقولون ألم نقل لكم إنهم أشرار متوحشون، أو كأنهم يريدون التطبيع مع سكان القبور وليس مع شعب أفراده رجالاً ونساء وشيوخاً وأطفالاً يريدونهم أن يحملوا عصاهم ـ إذا أبقوا لهم عصى ـ ويرحلون، أو أن ينتقلوا إلى العالم الآخر إذا لم يمكن دفعهم إلى ما يسمى الوطن البديل، كأن الأوطان لها بديل وليست صلة أبدية بين الإنسان وأرضه التي استقر عليها آلاف السنين، بينما يريدون بكل الوسائل أن يحل مكانه من لا ينتمون بالقطع إلى من كانوا يسكنونها من آلاف السنين وذهبت ريحهم لأسباب ليس من الضروري الخوض فيها، علماً بأن التاريخ والواقع يعلمنا أن الشعب والدين عنصران مختلفان قد يلتقيان لكنهما بالقطع لا ينطبقان. ومع كل ذلك الذي يسقط دعاوى ما أنزل الله بها من سلطان، فإن الشعب الفلسطيني قبل، وقبل العرب ـ بعد مقاومة مبررة ـ مراراً وتكراراً ـ وآخر مرة في مبادرة بيروت ـ أن يقتسم أرضه التاريخية مع القادمين من مشارق الأرض ومغاربها ومن شمالها وجنوبها راضين بعد أن تكالب الزمن والظروف عليهم ـ بما كان قد وعد به من لا يملك لمن لا يستحق.

ولكن الإسرائيليين أبداً لا يكتفون بما تحقق، ولا يقرون بأن المبادرة العربية الشاملة هي ـ في الظروف التي تولدت مع السنين من تراكم الأخطاء ـ أكثر الحلول المطروحة شمولاً ومنطقية وقدرة على خلق الظروف المناسبة لتطبيع حقيقي، تهدأ فيه النفوس لأنه يستند إلى عدالة نسبية وليس إلى أوهام كاذبة تأتي عبر الأطلنطي محملة بأتربة الخداع وأمواج الخديعة.

ولا يعني هذا أننا نلقي باللوم كل اللوم على الإسرائيليين وحلفائهم لأن بعض هذا اللوم يقع بالقطع علينا حين نسقط في الشراك ونسمح باستغلال ظروف، بعضها نخلقه لأسباب تمت لقصة «قصير الذي جدع أنفه» ونحن نرى مثلاً في الأزمة بين فتح وحماس استغلالاً إسرائيليا لرواسب كانت في النفوس لأسباب لعلنا نعرفها جميعاً. فهناك تركيز على الوقيعة بين مصر وبين أشقائها باستغلال حماقات بعض من ينتمون لحماس أو لغيرها. نحن نعرف جميعاً مثلاً أن الضغط يولد الانفجار، ولذلك تعمل مصر على تخفيف هذا الضغط على أهل غزة، وفي هذه الظروف فليس من المعقول أن يكون هذا الانفجار في اتجاه مصر ولا يكون في اتجاه المحتل الغاصب الذي يستمر في غيه. ولم يكن متصوراً أن تحتاج حدود فلسطين مع مصر إلى أسوار وسدود، مع أن مصر مستعدة دائماً لاستقبال الأخوة الفلسطينيين بطريقة نظامية وإنسانية ولست ممن يبالغون أو يهونون من الأمور، ولا من يرون وراء كل تحرك عفريت مؤامرة ، مع أن العفاريت موجودون ويجب الحذر منها وعدم الوقوع في فخاخها الخبيثة، والحرص على عدم خلق أوضاع ناتجة عن الرعونة وعدم التعقل يستغلها بعض المتربصين هنا أو هناك. وأنا مثلاً لا أتصور ولا أصدق فتوى من حماس بجواز قتل المصريين ـ وهو كبيرة الكبائر ـ ولكن هناك خطبة بهذا المعنى من إمام جاهل يصارع لسانه عقله بل قلبه، ونحن هنا نعاني أحياناً من أمثال هؤلاء، وكان الواجب على المسؤولين في حماس أن يسارعوا بالنفي والعقاب. ومن ناحية أخرى فإنني لا أصدق ما نشرته إحدى الصحف وأسمته مخططا بل خطة حرب كاملة لاجتياح الحدود المصرية بعمليات لا يتصور إلا جاهل أنها لا تخص جيوشاً نظامية، أو أنها يمكن أن تنجح في مواجهة قوات الأمن المصرية اليقظة والشعب المصري الواعي، بل لا أتصور أنها يمكن أن تنبع إلا في عقل أو مخلية معتوه مصاب بالجنون. وكل من يقرأ الخطة يندهش لأنه أمر لا يصدق لا في الموضوع ولا في الشكل، وحتى إذا قيل أن مصادر الخبر فلسطينية فلا أشك في أنها إسرائيلية في إطار محاولات الوقيعة، وعلى أية حال كان على المسؤولين في حماس أن يعالجوا هذا الأمر بما يستدعيه من وضوح وحزم وسرعة وقوة.

ثانياً: لعل الشعار الذي اقترحه لا ينطبق فقط على الموضوعات السياسية المعقدة، ولعل القومية في معناها الحقيقي لديها مجالات أفسح من ذلك لكي تعبر عن نفسها، وأنا هنا أشير إلى توالي البيانات المتعلقة الصادرة عن المسؤولين الكبار في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، مفادها أن ارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية لشعوب العالم الثالث مثل الأرز والقمح والذرة قد ارتفعت وتوالى الارتفاع إلى درجة تهدد أكثر من مائة مليون شخص في الدول النامية بانتقالهم إلى النزول عن خط الفقر، مع ما قد يترتب عن ذلك من مجاعات علمنا التاريخ أنها تؤدي إلى حروب طاحنة واضطرابات وقد أوضحت الإحصاءات إنه خلال السنوات الثلاثة الماضية ارتفعت أسعار القمح بنسبة 120%، والأرز 74% والذرة 31%، وذلك لأسباب تتصل بانهيار المحاصيل، وسوء الطقس في دول منتجة كبيرة، وزيادة الطلب، ولكن السبب الحقيقي هو لجوء دول كثيرة إلى استخدام بعض تلك المحاصيل لتوليد طاقة بديلة إزاء ارتفاع ثمن الطاقة التقليدية.

إزاء ذلك، فإنه قد حان الوقت وبجدية هذه المرة لإصدار أفكار التكامل الزراعي بين الدول العربية، ولعل هذا المشروع أهم من مشروعات كثيرة يجرى تداولها وعقد الاجتماعات بشأنها دون أن يتلو الضجيج طحين حقيقي. وأتصور أنه من الضروري تركيز الجهود في هذا المجال، وطالما سمعنا عن مشروعات لزرع القمح في كندا !! وفي السودان وفي صحراء مصر الغربية ولكننا قليلاً ما سمعنا عن التنفيذ الفعلي لما يمكن أن يكون زيادة الروابط الفعلية بين الدول العربية على أساس مصالح اقتصادية ومعيشية حيوية تتجاوز الاختلافات والخلافات السياسية التي كثيراً ما تكون غير مبررة ولكنها دائماً مدمرة. إن أمامنا فرصة ولدينا ضرورة لكي نتجاوز الكلام إلى العمل الجاد المفيد بعيداً عن أيديولوجيات تجاوزتها الأحداث، وحساسيات يجب أن تمحوها الضرورات، وانتقالا من عالم الكلام إلى عالم العمل، ومن أحاديث الأوهام وتفسير الأحلام، إلى ترجمة تلك الأحلام إلى حقائق هي في الواقع غير بعيدة المنال.

ثالثاً: أنواع من الناس: هناك متحدثون يحسن لهم ولمن يتحدث باسمهم ألا يكثروا الكلام فيقعون في مطبات ويوقعون غيرهم معهم. وهناك مادحون يبالغون في المدح إلى درجة تتلاقى عندها الأضداد، فينقلب المديح ـ وأحياناً يكون مبرراً ـ إلى ما يسيء أكثر مما يفيد. وهناك من يذمون وينتقدون حيث يكون النقد مبرراً ولكن نقدهم يتوه جوهره في أسلوبه وشكله. وهناك من يمدحون ويذمون بأسلوب الأعشى في حجرة مظلمة فلا يفرقون بين من تصيبهم ضرباتهم أو قبلاتهم فيكونون من الخاسرين في جميع الأحوال.