نهاية نهاية التاريخ

TT

روبرت كاغان هو المفكر الرئيسي لمدرسة المحافظين الجدد الأمريكية، التي لا تحتاج  للتقديم، كما أنه المنظر الأبرز للمشروع الأمريكي في العراق، منذ مطلع التسعينيات وله تأثيره الكبير في إدارة الرئيس بوش.

عرف الرجل بمشروعه الثوري الراديكالي لنشر الديمقراطية بالقوة والضغط السياسي لإسقاط الاستبداد وكسر حالة الاستثناء العربي.

خفت صوت كاغان في الآونة الأخيرة، وها هو يعود من خلال كتاب بعنوان «العودة للتاريخ ونهاية الأحلام» لا شك أنه يشكل إعلان وفاة  تلك المدرسة، التي شغلت الناس كثيرا بعد حرب العراق عام 2003 (أي مدرسة المحافظين الجدد).

يقدم لنا كاغان عصارة كتابه الجديد في مقال مطول في العدد الأخير من مجلة «ذا نيو ربوبليك» الناطقة باسم الفكر اليميني المحافظ، أعطاه عنوان «نهاية نهاية التاريخ».

وعنوان المقال كما هو واضح رد مباشر على أطروحة فوكوياما المشهورة التي تبناها اليمين الأمريكي بمختلف اتجاهاته، وكانت التعبير النظري عن حالة التحمس العارم والفرحة الكبرى بانتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة.

يقر كاغان في نوع من النقد الذاتي المرير، أن كل الذين تفاءلوا بالعصر الديمقراطي الذهبي وانتصار القيم الليبرالية وحقوق الإنسان، كانوا سذجا واهمين، متأثرين بمناخ الحتميات الذي كان يطبع حقبة الحرب الباردة.

فالعالم لم يتحول الى وضعية التناغم المتوقعة، بل انه عاد الى حالة مماثلة لما كان عليه في القرن التاسع عشر، عندما كان التناقض قائما منذ عهد الأنوار داخل أوروبا بين قوى الديمقراطية وقوى الاستبداد التي تتشابه من حيث النظام الاقتصادي الليبرالي والمستوى التقني العلمي.

فلقد كان لألمانيا أوانها نفس النظام الرأسمالي المتبع في فرنسا وبريطانيا، ولم تتحول للديمقراطية الا بعد ستة عقود، مما يدل على عدم تلازم الليبرالية الاقتصادية والحريات الديمقراطية التعددية.

ويرى كاغان أن النموذجين الروسي والصيني يتدعمان داخليا ودوليا، ويطرحان تحديات خطيرة على النظام الدولي. ففي روسيا نجح بوتين في بناء نموذج قيصري جديد مستقر ومزدهر اقتصاديا، قائم على العلاقة العضوية بين التسلط داخليا ومنطق القوة العظمى خارجيا، عازفا على وتر استعادة روسيا العظمى أمجادها الغابرة.

وفي الصين تشكل نموذج بجمع بين اقتصاد سوق نشط وأحادية حزبية متحكمة في المجتمع، يبدو انه في طور التدعم بفضل المعجزة الاقتصادية التي أخرجت البلاد من التخلف، وشغلت الناس بالمال والرفاهية.

إن خطورة النموذج الصيني ـ الروسي حسب كاغان تكمن في كبح اتجاه عولمة قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان على مستوى القانون الدولي، باعتبار أن كلا البلدين يتشبثان بمنطق السيادة التقليدية، ويعتبران ديناميكية التوسع الديمقراطي في العالم خطر على مصالحهما الحيوية.

وهكذا يتوقع عودة الأنظمة الاستبدادية في العالم كله تأثرا بالنموذج الروسي ـ الصيني على غرار الموجتين النازية والشيوعية اللتين اجتاحتا المعمورة في القرن العشرين. ومن الواضح أن البلدين يدعمان ويحميان اليوم عددا من البلدان الديكتاتورية كالصين والسودان وبورما.

ويخلص كاغان من تحليله الى أن الخارطة الاستراتيجية للقرن الحادي والعشرين سيحددها الصراع بين المعسكر  الديمقراطي والمعسكر الاستبدادي اللذين سيتقاسمان العالم، مما يعني زيف ولاواقعية مقولة «الأسرة الدولية» التي شاعت في العقدين الأخيرين.

ليس من همنا مناقشة نظرية كاغان، التي نقرأها في سياق الفشل الذريع الذي مني به مشروع المحافظين الجدد من حيث كان الأفق الاستراتيجي للإدارة الأمريكية منذ أحداث 11 سبتمبر 2001.

ولقد قام هذا المشروع على مصادرتين هشتين يقر بزيفهما اليوم كاغان:

أولاهما: التلازم بين حركة التوسع الرأسمالي والتوجه الليبرالي الديمقراطي، وثانيتهما قدرة الولايات المتحدة على صياغة هذا التلازم في استراتيجيات دولية فعالة. والخلل الذي لم ينبه إليه كاغان، مع انه درس آخر من دروس القرن التاسع عشر، هو أن الحالة الديمقراطية الداخلية لا تنجم عنها ضرورة سياسة خارجية ليبرالية تحترم حقوق الغير وسيادته. وقد دفعت الامبراطوريات الاستعمارية الأوروبية في الماضي ثمن هذا الخلل، وها هي أمريكا تدفع ثمنه اليوم في العراق.