التصفيق ليس إعجابا وإنما هو إصرار على الإزعاج

TT

في أواخر الأربعينيات جاءتنا فرقة «الفيلهارمونيا النمساوية» ولا أذكر اسم المايسترو. وجلسنا في صمت تام. وتأخر المايسترو دقائق. وهذا أمر غير مألوف.. فكل شيء في حياة المايسترو في غاية الدقة تماماً مثل حركات يديه وعينيه وإشاراته للعازفين أمامه وحوله وعيونهم تتعلق بيديه. وبعد ربع ساعة ظهر المايسترو. وكانت المفاجأة، فقد رفض أن يعزف السلام الملكي الذي نبدأ به كل حفلاتنا الفنية أو السياسية. حاولوا إقناعه فرفض. وعرفنا في ما بعد أن عزف النشيد ليس في البرنامج المتفق عليه. ثم إنه لم يعتد على ذلك فأمامه برنامج لكبار الموسيقيين. ولا بد أن يؤديه.. مع أن السلام الملكي مأخوذ من أوبرا (عايدة) للموسيقار الإيطالي الكبير فيردي!

وبإشارة صارمة من يديه بدأت الفرقة الموسيقية العزف البديع وكانت موسيقى موتسارت ومن بعدها موسيقى برامز ثم كورساكوف. الله الله!

وجاءت الاستراحة ونحن نتحدث ونتغنى بما سمعنا ورأينا. ولم تنخفض الإضاءة إيذانا للجمهور بأن الجزء الثاني من الحفلة يوشك أن يبدأ. طال الانتظار والأضواء كما هي.. خمس دقائق.. عشر.. عشرون.. شيء عجيب ومن النادر أن يحدث.

ثم أطفئت الأنوار وجاء المايسترو وقوبل بتصفيق حاد، ولكنه أدار ظهره ولم يشأ أن يلتفت ويرد التحية بأن تقف الفرقة الموسيقية وتنحني وتشكرنا على الحفاوة. إن المايسترو غاضب علينا تماماً. لماذا؟ لجهلنا. فعندما تعزف الفرق الموسيقية سيمفونية، ففي السيمفونية حركات.. لحظات صمت.. لكي تنتقل من قسم إلى قسم آخر ولحظات الصمت هذه يجب ألا نقاطعها بالتصفيق، فالتصفيق يشتت التركيز الشديد عند المايسترو والعازفين.. ونحن مصرون على التصفيق، فهي عادة شرقية. ولكن المايسترو أدار ظهره ورفض أن يرد التحية.. وإن كان قد فعل ذلك مضطراً منزعجاً في النصف الأول من الحفلة. ولما انتهت السيمفونية ولم ينتظر التحية من أحد خرج مندفعاً ومن ورائه العازفون. نحن ضايقناهم فأهانونا.. ورفضوا عادتنا السخيفة وما زالوا وحتى الأسبوع الماضي في أوبرا القاهرة!