هل هي (باطنية سياسية).. في العلاقات الإيرانية الأمريكية؟

TT

«إن الحزب الذي دفع بالثورة الفرنسية في طريق العنف كانت توجهه (اليد الخفية) التي نعجز عن اتهامها حتى الآن».. اليكس دو ميسفيل.

على الرغم من الصخب العالي المدوي المتتابع عن (الشفافية)، فإن العالم غارق في (الباطنية السياسية).. ونقصد بالباطنية السياسية: ان ما يظهره كثير من الساسة غير ما يبطنونه، بل ان كلمة (غير) تبدو غير دقيقة، ذلك أن ما يظهره الساسة الميكيافليون هو (ضد) ما يبطنونه.

وفي العلاقة بين ايران والولايات المتحدة الأمريكية (شيء) من هذه الباطنية السياسية.. وهذه الباطنية السياسية تمارس ـ بهمة ودأب ـ في ذروة ما يبدو للناس انه (عداوات شديدة) وقطيعة نهائية.. مثلا.. في ذروة (أزمة الرهائن): رهائن السفارة الأمريكية في طهران، بدا الأمر وكأنه صدام حتمي بين الطرفين، بيد ان مفاوضات على مستوى عال كانت تجرى بينهما بقيادة علي رافسنجاني للفريق الإيراني، وقيادة جورج بوش الأب للفريق الأمريكي. ولقد أبرمت (الصفقة) العجيبة المثيرة (السرية)، وخلاصتها: الاتفاق على (عدم اطلاق الرهائن) في عهد الرئيس الأمريكي ـ يومئذ ـ جيمي كارتر، وذلك حتى لا يفوز فريقه في الانتخابات الرئاسية التي كانت على وشك أن تجرى. وبالفعل، حرم الرهائن الأمريكيون من (الحرية) حتى سقط كارتر وفريقه، وفاز رونالد ريغان وفريقه، وعلى رأس هذا الفريق: جورج بوش الأب الذي أصبح نائبا لريغان.

هذا (الملف السري)، أو الباطنية السياسية في العلاقات الأمريكية الإيرانية هل كانت (حادثة مفردة)، حدثت ثم انتهت نهاية لا تتكرر قط؟.. لا يظهر انها (فلتة) يتيمة في العلاقات الإيرانية الأمريكية.. مثلا.. في غزو الأمريكان لأفغانستان والعراق، كان هناك (تنسيق ما). أولا: لأن هذين البلدين يجاوران إيران. ثانيا: لأن لإيران مصلحة (أكبر) من المصلحة الأمريكية في سقوط النظامين المعاديين لها في البلدين، فقد كانت تعادي نظام صدام حسين لأسباب كثيرة منها سبب حرب الثماني سنوات المدمرة التي نشبت بين العراق وايران. وكانت تعادي نظام طالبان لأنها تعده (نظاما مذهبيا متعصبا) يعاديها على أساس مذهبي.. لهذه الاعتبارات، كان لأمريكا وإيران (مصلحة خفية مشتركة) في زوال هذين النظامين، ولذا كان (التنسيق) في هذه الصورة أو تلك.

نعود الى هذا الموضوع بسبب عودة (طبول الحرب) التي تنذر باندلاع مواجهة عسكرية بين ايران وأمريكا.

وفي الأفق نظريتان أو احتمالان: لكل منهما قرائنه ومؤشراته: أولا: السيناريو الذي يرجح التوجه نحو الحرب أو المواجهة.. وقرائن هذا السيناريو هي:

1 ـ ما كتبه بات بوكانان (كان مرشحا للرئاسة الأمريكية منذ سنوات). فبوكانان يرجح الحرب الأمريكية على ايران ويقول ان دلائله على ذلك هي:

أ ـ ان زعيمة الأكثرية الديمقراطية في مجلس النواب نانسي بيلوسي كانت قد قدمت مشروع قانون يحظر على الرئيس الأمريكي شن حرب على ايران من دون موافقة الكونجرس. هذا المشروع سحب بغتة!! ب ـ موافقة الكونجرس على قرار يصنف الحرس الثوري الايراني في قوائم (الإرهاب) ج ـ والدليل الثالث على الحرب في نظر بوكانان هو المناورات العسكرية الضخمة التي أجرتها الولايات المتحدة منذ قليل.

2 ـ إقالة أو استقالة قائد القوات الأمريكية في المنطقة (فالون)، الذي قيل انه يعارض مهاجمة إيران من وجهة نظر عسكرية احترافية، وسياسية أو (وطنية)، والإتيان ببديل يقال إنه أطوع وألين في يد الإدارة.

3 ـ حرية حركة الإدارة الأمريكية المالية لم يبق أمامها إلا شهور معدودة، فبعد نوفمبر المقبل (حيث تجرى الانتخابات الرئاسية وتظهر نتائجها)، لن يستطيع جورج بوش أن يبرم قرارا كبيرا كهذا.. ولذا يقول مرجحو احتمال الحرب: ان الادارة لن تفوت فرصة الصلاحيات المخولة لها عبر الشهور الخمسة المتبقية من فاعلية الرئاسة، وستشن (حربا خاطفة) على ايران.

4 ـ الإدارة الأمريكية في مأزق قاتل في العراق، ولن تخرج منه إلا بـ(خلط مروع للأوراق)، أي بحرب جديدة على إيران تغير المسرح، وتغير الممثلين أو اللاعبين.. وعبارة (داوني بالتي كانت هي الداء) قد تصلح في العمل الاستراتيجي والسياسي!!.

5 ـ ان اللوبي الصهيوني الذي خطط لحرب العراق ودفع اليها (بشهادة زبغنيو بريجنسكي) مثلا، هو هو نفسه الذي يدفع الى الحرب على ايران. وهذا اللوبي يعلم ـ بيقين ـ انه لو فاتته فرصة وجود بوش وتشيني في البيت الأبيض، ليس مضمونا ان يحقق ما يريد في الرئاسة الجديدة المقبلة.

ثانيا: السيناريو الذي يستبعد الحرب: استنادا الى مجموعة من القرائن والمؤشرات أيضا، ومنها:

1 ـ منذ أيام قال الرئيس الأمريكي جورج بوش:«إني لا أعتزم مهاجمة إيران قبل أن أغادر البيت الأبيض، وان ما يتردد عكس ذلك مجرد شائعات مسلية ومضحكة».. وفي هذا السياق نفسه ـ وفي مواكبة زمنية ـ قالت وزيرة الخارجية كونداليزا رايس:«ليس هناك نية لدينا للمزيد من التصعيد الاستراتيجي ضد ايران، ولا نزال نفضل الخيار الدبلوماسي».. وقال وزير الدفاع روبرت جيتس:«اعتقد ان فرص حدوث مواجهة بيننا وبين ايران منخفضة للغاية.. ولهذا الكلام تفسيرات شتى. فقد يكون (مخدِّرا إعلاميا) يدفع ايران الى الاسترخاء!، وقد يكون اضطرارا سياسيا تحت ضغط قوى وطنية أمريكية: عسكرية وسياسية لا تريد حروبا جديدة.. وقد يكون ترجمة علنية لـ(صفقة سرية) كبرى بين الطرفين.

2 ـ القرار العراقي بـ(حل الميليشيات)، وهو قرار لا قيمة له ما لم تؤيده ايران: نظريا وتطبيقيا، وإن كان القرار يخدم ـ في مقصد من مقاصده ـ السياسة الأمريكية هناك، فالأمي والعالم يعلمان: ان لإيران نفوذا طاغيا في هذا المجال. ولقد قال مستشار عراقي له وزنه في الأسبوع الماضي:«ان إيران ساهمت في انهاء القتال الذي دار بين قوات الحكومة وبين ميليشيا جيش المهدي في جنوب العراق».. وكان محسن الحكيم (ابن عبد العزيز الحكيم رئيس المجلس الأعلى الإسلامي العراقي) قد زار طهران واجرى محادثات مع مسؤولين ايرانيين حول هذه المشكلة. وقال ـ بعد هذه الزيارة ـ:«إن طهران من خلال استخدام تأثيرها الإيجابي على الأمة العراقية مهدت الطريق لعودة الهدوء والسلام الى جنوب العراق، وان الولايات المتحدة طلبت عقد جولة رابعة من المحادثات مع المسؤولين الايرانيين والعراقيين حول سبل تحسين الأمن في العراق».. وهذا أمر بديهي، فإن القوى الرئيسة التي تحكم العراق هي: المجلس الأعلى الإسلامي العراقي، وحزب الدعوة، وهاتان القوتان السياسيتان في تحالف جد وثيق مع طهران، قبل الاحتلال للعراق وبعده.. وثمة سؤال مهم في هذا السياق وهو: هذا يعني (التضحية) بمقتدى الصدر وتياره (يلحظ أن الغاء هذا التيار أو احتواءه مطلب أمريكي شديد الالحاح).. فهل يمكن ان تقدم ايران على هذه الخطوة المثيرة؟.. والجواب: يمكن جدا إذا كانت لايران مصلحة قومية أكبر في ذلك، ومما لا شك فيه ان حسابات ايران في العراق أكبر وأدوم من التيار الصدري.

3 ـ تدهور الاقتصاد الأمريكي، وهو حقيقة اضطرت مؤسسات متخصصة وعريقة الى الاعتراف بها، وهناك اتفاق على ان الغزو الأمريكي للعراق ـ وما تبع ذلك من تكلفة مالية هائلة ـ كان أحد أقوى أسباب التدهور في الاقتصاد الأمريكي، ومن الجنون أن يتحول التدهور الى (كارثة اقتصادية قومية) بفعل حرب جديدة على ايران.

4 ـ يتردد ـ بقوة واستفاضة ـ في مواقع القرار الأمريكي/ ان اربع مؤسسات أمريكية كبرى ومؤثرة تعارض الحرب بشدة، وهذه المؤسسات ـ المتصلة مباشرة بقرار الحرب وتبعاته ـ هي: وزارة الخارجية، ووزارة الدفاع، والقيادة العسكرية، والـ سي آي إيه.

فماذا هناك؟.. ماذا وراء طبول الحرب، وموانع الحرب؟

لنختم موضوعنا بالتنبه السياسي الى نقط ثلاث:

أ ـ في السياسة لا ينبغي أن تؤخذ الأمور على ظاهرها. ففي السياسة ليس هناك (يقينيات) ثابتة لا تتزلزل أو تتبدل، كما أن هناك ما يصح تسميته بـ(الباطنية السياسية) وهي باطنية لها أسانيدها الكثيرة في التاريخ السياسي البشري: القديم والمعاصر.

ب ـ في ظل هذه النقطة يتوجب الكف عن (السذاجة السياسية) التي تؤز أصحابها على بناء مواقفهم وسياساتهم على (المعلن) من المواقف والأمور السياسية، فكثيرا ما يكون المعلن غطاء لضده ونقيضه.

ج ـ تبدو ساحة المنطقة في صورة مسرح فوقه لاعبان ـ فحسب ـ: اللاعب الايراني، واللاعب الأمريكي، على حين أن اللعب سينزل بـ(غير اللاعبين) أشد الأضرار السياسية والأمنية والاقتصادية.

ولا خيار أمام هؤلاء (المتفرجين) إلا أن يوقفوا اللاعبين بمصائرهم، أو ينزلوا الى الملعب ليعطلوا ـ بكل وسيلة متاحة ـ من اللعبة الخطرة ما يؤذيهم ويشقيهم: اليوم وغدا.