دنيا النسيان!

TT

يقولون ان القرن الحادي والعشرين سيكون «القرن الآسيوي»، ولكنه، بلا شك، سيكون «قرن الذاكرة الضعيفة»، فنحن نحضر الحفلات وكثيرا ما نسمع شبابا ناجحين يتحدثون عن ذاكرتهم الضعيفة، وفي الوقت الذي يتدفق سيل من المعلومات على كل فرد منا نجد أن القليل يبقى في الذاكرة، فضغط الحياة قد أصبح كبيرا لدرجة أن المرء قد ينسى ما فعله ليلة السبت الماضي وما كان يفعله خلال مرحلة التعليم الإعدادي.

وفي هذا العصر الذي يشهد تزايدا مطردا للسكان، نجد أن المجتمع قد أصبح منقسما بين طائفتين: من يتمتعون بذاكرة خصبة ومن لديهم ذاكرة ضعيفة. فمن ناحية، هناك من لديه ذاكرة «بروستية»، ويحرص هؤلاء على استعراض قدراتهم القوية في الاستذكار كما لو كان الاقتباس من أعمال الشاعر «أودن» دليلا على تميزهم عن الآخرين. وفي الجانب الآخر، نجد من يعاني من التأثيرات الطبيعية للحياة التي يعيشونها.

وينتج هذا الانقسام لحظات من النزاع المجتمعي، فقد تجد وأنت في أحد المحلات شخصا وجهه مألوف يقول: «أهلا، أنا سعيد أن أراك». رد فعلك في هذا الوقت هام للغاية، فأنت تريد أن تبدي دفئا عاطفيا ولكنه غير حقيقي، ولذا تقول: «مرحبا، أنا أيضا سعيد برؤيتك. كيف حالك؟»، وخلال هذا الوقت تنقب في ذاكرتك كي تتذكر الوقت والموقف الذي رأيت فيه هذا الشخص.

الشخص اللطيف هو من يشعر بمعاناتك ويعطيك بعض المعلومات البسيطة، فيذكرك بنزهة جمعتكما أو اجتماع حضرتماه سويا أو غير ذلك، ولكن الشخص «البروستي» لن يقول شيئا، وسيجيب: «أنا بخير، ماذا عنك؟»، وفي هذه الحال ستلجأ إلى كلام مبهم حتى يمكنك أن تتذكر من هو هذا الشخص، وستتحدث في أمور عامة كما لو كنت قد صحوت للتو من غيبوبة. وقد يكمل هذا الشخص بلا رحمة وهو يحس بما تشعر به من ألم، فيتساءل: «كيف حال ماري وستيفن وروب؟». يؤكد، بلا حاجة لذلك، على أنه يعرف أسماء أبنائك. وفي هذا الموقف ستشعر بمعاناة شديدة وستتمنى لو انشقت الأرض لتبتلعك، والطرف الآخر مستمر يقول: «كانت حفلة رائعة في تلك الليلة، أليس كذلك؟»، وعندئذ ستشعر بالتيه وتتساءل في نفسك «أي حفلة؟ هل قابلت هذا الشخص في حفلة ما؟»، ولكنك ستكون عاجزا عن قول أي شيء. وبعد هذا قد يعطيك هذا الشخص رصاصة الرحمة ويقول: «أنت لا تعرف من أنا، أليس كذلك؟». لن تستطيع عندئذ أن تقول الحقيقة، فهذا سيكون نوعا من الهزيمة الاجتماعية.

ستكون لـ«قرن الذاكرة الضعيفة» آثار كبيرة على النسيج الاجتماعي وموازين القوى الدولية، فسيلاحظ خبراء العلاقات الدولية أن القوى الكبرى يمكن تعريفها وفق أنماط النسيان الخاصة بها. سينسى الأميركيون أخطاءهم، وسينسى الروس ضعفهم، وسينسى الفرنسيون أنهم قد نسوا ربهم، وفي الشرق الأوسط سينسى من هناك كل ما له علاقة بأسباب ضيقهم. وستكون هناك حركات وقضايا مجتمعية جديدة.

وسيظهر دارسو الشؤون البيئية العصبية ليحثوا الناس على قبول ضعف الذاكرة كوسيلة للتخفيف من مشاكلهم العقلية، وسيظهر أساتذة في «تقوية الذاكرة» ليبيعوا فياجرا لتقوية الأعصاب. وكما هو الحال في معظم التحولات التاريخية سيكون للطبقة العليا والمثقفين الحظ الأوفر من عرض معاناتهم.

وسيكون مؤلما أن يشعر النرجسيون بضعف في الذاكرة لأن هذا يعني أنهم سيفقدون جزءا من الشخص الذي يحبونه أكثر، ففي أول الأمر سينسون الأمور التي كانوا يتظاهرون بأنهم يفهمونها، مثل نظرية الفوضى والسياسة النقدية، وبعد هذا سوف ينحصر حديثهم في الحديث عن البطولات الشخصية. وسيضعف تعلقهم بأنفسهم كثيرا خلال «قرن الذاكرة الضعيف»، ولكن عجزهم عن استرجاع الماضي سيفضي إلى إحدى أبرز خصائص هذا القرن: مذكرات أقصر.

* خدمة نيويورك تايمز