تأملات في المكايدة الروسية ـ الجنبلاطية

TT

يحتار المرء في الموقف الروسي في ما يتعلق بالأزمة في لبنان. ويصعب القول إن روسيا مع أحد طرفيْ الأزمة، الأكثرية من جهة والمعارضة من جهة اخرى. كما يصعب القول إنها ضد هذه او تلك بالمطلق. وهذا يعني انها ليست محايدة لكي تكون صاحبة دور فاعل وإنما هي على درجة من السلوك الإنتهازي الذي يغطيه سفير الدولة المنقوصة العظَمة، بعدما كانت عظمى بإمتياز، سيرغي بوكين بإطلالات تلفزيونية بعد لقاءات رسمية، ويحرص في هذه الإطلالات على ان يتحدث بالعربية وتلك خطوة شجاعة من جانبه شبيهة احياناً بخطوة سفيرة بريطانيا فرانسيس غاي التي تنطق بالعربية احياناً ومن دون ان يستوقفها، كما زميلها الروسي، ان عربيتهما على قد الحال.

مضت اشهر دون ان يسجل السفير الروسي وقفة كيدية كتلك التي وقفها فجأة مع صديق الكرملين التاريخي إبناً عن أب وليد كمال جنبلاط. ثم ها هو يوم الاربعاء 2/4/2008 يسجل «أم الوقفات الكيدية» متمثلة بزيارة كان الغرض منها الكيد ولا شيء غيره على الإطلاق، قام بها الى دارة الشخصية الدرزية المثيرة للانتباه الوزير السابق وئام وهاب في بلدة «الجاهلية» وتلك ضربة موجعة للزعيم الدرزي الأكثر شأناً وليد جنبلاط الذي يتلقى السهام الحادة من وئام وهاب السوري الهوى كونه احد المتمترسين في خط الهجوم الاول على كل من يقول كلمة اساءة في حق النظام السوري. وكبير هؤلاء القائلين كما نعرف هو وليد جنبلاط الذي أشعل عرين الأسد الفاظاً تجاوزت بكثير موجبات التهيب ومراعاة المقامات. وفي مسألة الرد على جنبلاط بما هو اكثر من المثل كان وئام وهاب مجلياً في استمرار وموجعاً ومسموعاً.

في الزيارة المباغتة لـ«دارة الجاهلية»، الصادمة بطبيعة الحال، لـ«دارة المختارة» مارس السفير بوكين لعبة المكايدة على موجة طويلة. وبعد انتهاء اللقاء روى كل من الزائر والمُزار (بضم الميم) طبيعة اللقاء ومضمون المباح التصريح حوله على النحو الآتي:

السفير المكايد قال مبرراً الزيارة «كما تعرفون عندنا اتصالات وعلاقات متوازنة مع كل الاطراف اللبنانيين ونحن دائماً نستغل مثل هذه الفرص لنشجع كل اللبنانيين على بدء الحوار اللبناني ـ اللبناني في ما بينهم...».

والمضيف وئام وهاب قال: «تَناقشْنا في الكثير من الأمور المحلية والاقليمية والدولية وشدَّدنا على اهمية الدور الروسي خصوصاً في الشرق الاوسط وعلى الدور الروسي الداعم للقضايا المحقة...».

وهكذا لا السفير اوضح هذه الزيارة المباغتة، لأنها كيدية، وعندما تكون هنالك حاجة للمكايدة فإن المكايد يباغت لكي تكون الرسالة صاعقة وفاعلة. ولا المُزار (بضم الميم)، يمكن ان يوضح ان زائره يفعل ذلك بغرض مكايدة وليد جنبلاط. لكن مع ذلك فأهلا بهذا المُكايد ما دامت هنالك جوامع مشتركة وفائدة معنوية لكلا الطرفين.

وحيث أن وليد جنبلاط من النوع الذي لا يبتلع المكايدة ولا ينام على الضيم، وبالذات عندما تتعلق الامور بالطائفة، فإنه بعد تسعة ايام من زيارة المكايدة التي قام بها السفير بوكين لـ«دار الجاهلية» وسيدها وئام وهاب اغتنم مناسبة كلام مندوب روسيا لدى الامم المتحدة المتعاطف مع الضباط اللبنانيين الكبار الأربعة (جميل السيد، ريمون عازار، مصطفى حمدان، علي الحاج) الموقوفين بشبهة علاقة لهم بواقعة اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية السابق رفيق الحريري، وهو تعاطُف مفتعل يصب في خانة المكايدة التي سجَّلها السفير بوكين بزيارته وئام وهاب. وقد رد جنبلاط على المكايدة بأقوى منها قائلا «لفت نظرنا كلام المندوب الروسي لدى الامم المتحدة عن الضباط الاربعة، فلعله لم ينتبه الى المآثر الوطنية العظيمة لهذه المنظومة الأمنية القهرية اللبنانية التي قوَّضت كل أسس ومرتكزات النظام الديمقراطي في لبنان وتورطت في الاغتيالات السياسية بشكل فاضح وواضح...»، ثم يضيف: «اننا نأمل من روسيا التي طالما دعمت سيادة واستقلال لبنان وساهمت في تمويل المحكمة الدولية، ان تظل على موقفها الداعم لتطبيق العدالة في الجرائم السياسية في لبنان والتي كان قد بدأ مسلسلها باغتيال كمال جنبلاط الصديق الكبير للاتحاد السوفياتي مِن قِبَل النظام السوري...».

بعد ساعات من هذا الغمز واللمز الجنبلاطي حمل السفير الروسي بوكين اكليلا من الزهور وتوجه الى «دار المختارة» حيث وضعه على ضريح الزعيم الدرزي كمال جنبلاط ممطراً الإبن الغاضب من المكايدة المتمثلة بزيارة السفير للوزير السابق والزعيم الدرزي الناشئ وئام وهاب، بإطراءات ارتاحت لها نفس جنبلاط الإبن كما روح جنبلاط الأب. ومما قاله وبالعربية إياها في معرض الإطراء الأقرب الى التصحيح «أود القول إنه مع الأسف الشديد ونظراً لظروف تقنية محضة لم اتمكن من ان ازور ضريح كمال جنبلاط في 16 آذار الفائت، انما اليوم انتهزتُ هذه الفرصة لكي اضع اكليلا من الزهور على ضريحه. وقد كان صديقاً عظيماً للاتحاد السوفياتي ولروسيا الآن. وإننا نحترم كثيراً هذه الشخصية اللبنانية والاقليمية والدولية البارزة التي أثَّرت تأثيراً ايجابياً وضخماً على الحياة في لبنان والعالم اجمع. لقد مُنح كمال جنبلاط في عهد الاتحاد السوفياتي جائزة لينين للسلام لأن هذه الشخصية ساهمت مساهمة فعالة في تعزيز علاقات الصداقة التقليدية بين لبنان والاتحاد السوفياتي. وإننا في روسيا الآن نكن أقصى شعور الاحترام تجاه هذه الشخصية واؤكد بأن كمال جنبلاط الرجل العظيم سيبقى في قلوب الشعب الروسي الى الأبد...».

هذا عن جنبلاط الأب الراقد تحت التراب. لكن ماذا عن وليد جنبلاط المنزعج من المكايدة الناشئة عن زيارة السفير بوكين للخصم اللدود وئام وهاب؟

عن وليد جنبلاط والموقف من المحكمة الدولية افاض السفير المكايد فقال «أنتهز الفرصة السعيدة اليوم لنزور وليد بك (هكذا التوصيف بالحرف) صديقنا الكبير لنتباحث معه في اهم القضايا اللبنانية. اننا نتمسك بالمحكمة الدولية التي يجب ان لا تكون مسيَّسة ونرى ان التحقيق الجاري في قضية اغتيال الشهيد الرئيس رفيق الحريري يجب ان ينتهي...».

بعد الذي اوردناه حول امر لا سابقة له في اي بلد آخر بين سفير دولة كانت عظمى ثم غدت منقوصة العظمة وزعيم سياسي محلي، تبقى الاشارة الى ان اسباب المكايدة هي ان وليد جنبلاط ذهب بعيداً في علاقته مع اميركا التي زارها كثيراً وقال فيها ما أثار استغراب روسيا ومَنْ هم حولها من حلفاء في لبنان وسورية وايران، بل انه في نظر روسيا ذات العلاقة معه ومِنْ قبل ذلك مع والده، تأمرك وصار لزاماً تنبيهه الى ان يحسب الحساب للماضي. وجاء التنبيه بصيغة المكايدة وليس بصيغة التذكير الذي ينفع الذكرى.

وتلك واقعة من حق القارئ العربي البعيد عن المعاناة اليومية للبنانيين ان يحيط بما يحدث احياناً في لبنان المستباح من العدو ومن الجار ومن الشقيق، ويكون الذي يحدث هذا من النوع الذي لخصه شاعرنا الكبير المتبني بالقول: ... وإنه ضحك كالبكا.