خطاب وصاية فلسطيني في شؤون عربية

TT

«السيادة اللبنانية خنجر لطعن سوريا ودرع لحماية إسرائيل»، هكذا عنون أحد الكتاب الفلسطينيين مقالته التي تنتقد مناداة بعض اللبنانيين بسيادة بلادهم واستقلالها. المقال أعلاه يعيب على اللبنانيين دعوتهم هذه، بحجة افتقاد الدول العربية للسيادة وبحجة وجود الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين. فما دامت بعض الدول العربية تفتقد للسيادة، وما دامت فلسطين لا تزال تقع تحت الاحتلال فإنه، أي الكاتب، يرى أنه من المعيب على لبنان أن يطالب باستقلاله عن سوريا.

إن مثل هذه الرؤية هي نموذجاً صارخاً عن طبيعة التصورات الفلسطينية بعمومها في الشأن العربي. ومن يقرأ تحليلات الكثير من الكتاب الفلسطينيين في تناولهم للشأن السياسي اللبناني لا بد أن يصاب بالصدمة أو الدهشة على أقل تقدير. لا ندري حقيقة لماذا أو كيف تؤذي سيادة لبنان على أراضيه، سوريا، أو كيف تكون تلك السيادة درعا لحماية إسرائيل؟ ولماذا تكون سيادة لبنان وحده دون غيره، خنجرا لطعن سوريا؟ لماذا لا تعتبر، مثلا، سيادة الأردن أو مصر أو اليمن أو أية دولة عربية أخرى على أراضيها، خنجرا لطعن البلد العربي الآخر؟ لماذا سيادة لبنان بالتحديد هو الطعنة؟

الخطاب السياسي الفلسطيني الذي تعكسه كتابات الكثير من الكتاب والصحافيين والمحللين السياسيين الفلسطينيين، لا يزال يقف على أرضية آيديولوجيا بعض الأنظمة الشمولية العربية، وهو لهذا يشاركها التصور ذاته، في أن أي إعادة اهتمام لأي بلد عربي بمصلحة شعبه، هو تخلي عن القضية الفلسطينية، وخدمة للمشروع الصهيوني في المنطقة.

ولدى أية مقاربة لمضمون هذا الخطاب وإعادة تفكيك لآلياته يتضح لنا أن هذه الرؤية تريد أن تقول إن حالة التخلف التي وصلت إليها هذه الشعوب يجب المحافظة عليها لأنها ثمرة طبيعة ودليلا قاطعا لفعل مقاومة العرب للمشروع الصهيوني!!

هكذا تربى وترعرع الفكر السياسي الفلسطيني في ظل الآيديولوجية العروبية، التي تعتبر تقاعس الحكومات العربية عن الاهتمام بالقضايا الحيوية والجوهرية لشعوبها، هو دلالة أكيدة على اهتمام هذه الحكومات البالغ بـ«القضية المركزية»!!

لقد ترتب على هذا الترويج، تصديق الفلسطينيين لهذه الطروحات وترديدها ببغاويا دون فهم لمغزاها ومعناها ودون أي إدراك لحجم الإهانة التي تتضمنها للفلسطينيين. وكأن هذه الطروحات تريد أن تبرأ بعض الأنظمة «العروبية» التي تذرعت بالقضية الفلسطينية لتغطي ليس على فقدانها للشرعية بل وأيضا على قصورها وعجزها عن تلبية أبسط حاجات شعوبها.

ويمكننا القول إن الفكر السياسي الفلسطيني مصاب بحالة مرضية من الرهاب والخوف الشديدين أمام أي طرح يشتم منه رائحة التغيير في المنطقة، حتى بدا الفلسطينيون وكأنهم الشعب الوحيد الذي لا يريد الخير للشعوب العربية.

ونحن لا ندري حقيقة لماذا يعتبر أصحاب هذا الخطاب أن حالة الجوع والفقر والأمية وافتقاد الحريات هي من الأدوات المرغوبة والمطلوبة لمقاومة «المشروع الصهيوني»؟ لا بل وأكثر من ذلك أيضا فأن بعض الفلسطينيين يعتبر أن أي حديث باتجاه التغيير يعتبر نوعا من أنواع المؤامرة التي يراد منها السير باتجاه المشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة. فإذا جرى الحديث عن تغيير المناهج الدراسية، يهب الكثيرون للحديث عن مؤامرة تستهدف ديننا وهويتنا. وكذلك الأمر في باقي القضايا.

إعادة تفكيك الخطاب السياسي الفلسطيني كله لتبيان مدى ضحالته، ومدى تأثره بآيديولجيا بعض الأنظمة العربية (الثورية) «الممانعة» كما تسمي نفسها، أصبحت من الأمور الضرورية. فهناك فقر مدقع في الفكر السياسي الفلسطيني يتجلى أكثر فأكثر في التفسيرات الهزيلة التي يقدمها معظم المشتغلين في الفكر السياسي الفلسطيني لما يجري في المنطقة. إذ لا يعقل أن لا يرى المحلل السياسي الفلسطيني في مذابح التطهير العرقي في دارفور سوى مؤامرة صهيونية لشغل العالم العربي عن الاهتمام بالقضية الفلسطينية. كما لا يعقل القول، إن أمريكا بقدها وقديدها تدخلت في العراق لسبب واحد ووحيد وهو خدمة الأهداف الإسرائيلية والصهيونية في المنطقة. كما لا يمكن الاستئناس للتفسير المؤامرتي ذاته، الذي لا يرى في قضايا الأقليات في المنطقة سوى محاولة أمريكية وصهيونية لإشعال فتيل حروب طائفية تختطف الأضواء من القضية الفلسطينية.

ولعل تفسير كل القضايا الهامة والمشتعلة في العالم العربي من خلال نظرية المؤامرة الصهيونية، هو أمر لا يحتمله عقل. أجل، يحتاج الفلسطينيون إلى إعادة تفكيك آليات خطابهم السياسي ومراجعته مراجعة شاملة لاكتشاف الأسباب الداخلية الحقيقية لمآسي العالم العربي دون استسهال تعليقها على مشجب المؤامرة الصهيونية. إعادة تفكيك هذا الخطاب هي ما يرينا حقيقة أن حال التخلف الذي تعيشه شعوب المنطقة وعدم التقدم لحل هذه القضايا، هو ما جعل إسرائيل تستقوي وتتفوق على دول المنطقة في كل المجالات والميادين، وليس العكس.

الفلسطينيون ينبغي أن يعوا حقيقة أن التغيير في وضع هذه الشعوب نحو الأفضل ليس خطرا عليهم أو على قضيتهم. وأن الاعتراف بوجود خلل داخلي في منظومة الكثير من الدول العربية هو الذي أدى أزمات خانقة وإلى وجود قضايا لم تحل، وهو أحد أهم الأسباب في تردي أوضاع هذه الشعوب، وفي تردي قضية الشعب الفلسطيني. وأن التحجج بوجود القضية الفلسطينية والخطر الإسرائيلي في عدم حل هذه القضايا ما هو إلا عذر أقبح من ذنب، ويفضح المستفيد الوحيد من هذه الحال التي وصلت إليها هذه الشعوب.

*صحافية فلسطينية

مقيمة في فيينا