بيادق على رقعة شطرنج..

TT

في عام 1969، نشر مايلز كوبلاند كتابه «لعبة الأمم The Game of Nation » لأول مرة في لندن باللغة الإنجليزية، وفق علمي، ونُشر باللغة العربية عام 1970 في بيروت، ووفق علمي أيضاً. استقبل الكتاب تلك الأيام، وخاصة في عالم العرب، على أنه جزء من لعبة أميركية تحاول أن تُشكك في مصداقية ثورات العالم الثالث، خاصة عالم العرب، وبالأخص «الثورة» المصرية، ومصداقية الناصرية، كأقوى تيار قومي في عالم العرب حينها، وخاصة أن المؤلف كان واحداً ممن أسهموا في تأسيس وكالة المخابرات الأميركية C.I.A. ، عام 1949، وهو الذي قضى معظم حياته العملية في منطقة الشرق الأوسط سفيراً وجاسوساً في ذات الوقت. كنت وقتها في سن الثامنة عشرة تقريباً، وكان الحماس الثوري قد أخذ منا كل مأخذ أيامها، فقرأت الكتاب ولم أصدق أي كلمة فيه، بل عملت جاهداً على ألا أصدق ولو كلمة واحدة منه، فالكاتب عميل، والهدف معروف: تحطيم أمة العرب، هذا المارد النائم، الذي يتصارع العالم على ابقائه نائماً. أتذكر أنني عندما أمسكت الكتاب لأول مرة، كنت قد وطدت العزم على البحث عن جوانب «المؤامرة» فيه، ولم يكن الهدف أن أعرف ماذا يقول المؤلف، فقد كنا نقرأ ونظارات ملونة تقف بيننا وبين الرؤية المباشرة، كما يفعل المخدر بالآيديولوجيا في كل مكان وزمان. كنا في الماضي اشتراكيين وقوميين، وما كنا نرى العالم إلا من خلال مفاهيم العدل والمساواة والرسالة الخالدة للأمة، التي هي رسالة خلاص للإنسانية جمعاء، ومن خلال تقسيم العالم إلى «فسطاط» التقدمية، وفسطاط الرجعية، وفق فهمنا آنذاك.

لست ألوم نفسي على تلك الأيام، ولست نادماً على لحظة قضيتها في خدر آيديولوجي جميل، ولكنه يبقى خدراً مهما كان جميلاً في لحظتها، كما هو الحال مع «فتية الصحوة» اليوم، ولكني أحمد الله على أنني أفقت من آثاره، أو أرجو أن أكون كذلك، كما أتمنى لآيديولوجي هذا الزمان أن يفيقوا من خدرهم.

ليس المجال هنا كوبلاند وكتابه، فقد أصبح الكتاب وصاحبه من كلاسيكيات الحرب الباردة بقضها وقضيضها. ما أعاد الكتاب إلى الذهن، وجعلني أنفض عنه غبار مكتبتي، هو تلك الأنباء الواردة بأن هنالك مباحثات سرية أميركية ـ إيرانية تجري منذ خمس سنوات، وبغض النظر عن صحة تلك الأنباء من عدمها، فإن المُحلل لسلوك الدول لا بد أن يصل إلى نتيجة مفادها أن مثل هذه المباحثات لا بد أن تحدث إن عاجلاً أو أجلاً. حقائق بسيطة، يعرفها الصغير والكبير تقول بذلك، بعيداً عن تعقيدات السياسة، وسياسة التعقيد: فمن ناحية، أميركا بوش أغرقت نفسها في مستنقع لا تدري كيف تخرج منه، فهي إن خرجت مشكلة، وإن بقيت مشكلة، كالحسكة في الزور، مؤلمة، وربما قاتلة، في خروجها ودخولها معاً. ومن ناحية أخرى، فإن إيران لا تستطيع أن تواصل التمويل والتسليح إلى ما لا نهاية، فمهما كانت قدراتها فهي محدودة في النهاية: إنفاقها العسكري الضخم على حساب قطاعات حيوية أخرى، تسليح الميلشيات في العراق، والتحالف المكلف مع سوريا، وتمويل وتسليح حزب الله في لبنان، وبقية أحزاب الله في عالم العرب، ونشر «التشيع السياسي» في العالم، كل ذلك هو إنهاك لجسد الدولة الإيرانية. فالاتحاد السوفيتي انهار في النهاية نتيجة مثل هذه العوامل، مع الأخذ في الاعتبار اختلاف الآيديولوجيا، فكيف بدولة يعتمد دخلها على نفط غالي السعر، ولكن من يضمن الغد؟ اللعبة اليوم بين أميركا وإيران هي أشبه ما تكون بلعبة شد حبل: الذي يصمد أكثر، هو الفائز، وقد قالت العرب قديماً الشجاعة ليست إلا صبر ساعة، ولا أظن أميركا أو إيران قادرتين على الصبر ساعة. أميركا أكثر قدرة على الصبر، ولكن لديها رأيا عاما وكونغرس، ومؤسسات وشعبا غير قادر على الصبر وهو يرى أبناءه يُقتلون، واقتصاده يتضرر. إيران قابلة للانهيار في أي لحظة، ولكنها تملك قناعة أسطورية أن «شيئاً ما» سيخرجها من محنتها، ومن هنا تلتقي المصالح: هذا «الشيء الما» بالنسبة لإيران هو أن تتفاوض أميركا معها (هدية السماء)، ونهاية الصبر لأميركا أن تقبل إيران بهذا التفاوض، وليذهب الصدريون وأحزاب الله إلى الجحيم، طالما أن إيران قد خرجت من محنتها بسلام، وهذا هو بيت القصيد.

السيد حسن نصر الله في بيروت، والسيد مقتدى الصدر في بغداد، والدكتور بشار الأسد في دمشق، يعتقدون أن إيران حليف استراتيجي سيبقى لهم إلى الأبد، وأن إيران ستبقى شوكة في حلق أميركا، إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، فهكذا يبشر الرئيس أحمدي نجاد، وهكذا تُبشر الآيديولوجيا الإيرانية المُخدرة «لشباب الصحوة» من الطرفين، بقرب خروج المهدي، الذي سيملأ الأرض عدلاً.

في النهاية، لن يجد نجاد إلا التفاوض مع أميركا، طالما أن تلك المفاوضات ستعزز الدور الإيراني في المنطقة، وسيُعترف بها، أي إيران، سيدة للخليج وعرب الخليج من دون منازع، كما اعترف عرب المشرق، فعلاً قبل القول، بإسرائيل سيدة لشرق المتوسط من دون منازع.

في النهاية، الدولة هي الدولة، قد تختلف الأنظمة، والآيديولوجيات، ولكن مصالح الدولة التاريخية والجغرافية والاستراتيجة، تبقى ثابتة فيما تتغير الوسائل من حولها. فالدولة الفارسية في عهد قورش مثلاً، وعهود الصفوية، والبهلوية، والخمينية هي ذات الأهداف تقريباً، وإن صبغت بألوان آيديولوجية بين الحين والآخر، أو تغيرت أساليب ووسائل تحقيق الغاية. والدولة الروسية كمثل آخر، هي ذاتها، سواء كانت قيصرية أو سوفيتية أو روسية ديموقراطية: تتغير الآيديولوجيات والأساليب، وتبقى أهداف الدولة، ككيان تاريخي وجغرافي، واحدة. ربما، وأقول ربما، أن الآيديولوجيات تجتذب المتحمسين للتغيير، وهذا مؤكد، ولكن حين التحليل الأخير، ليست هي الآيديولوجيات التي تفعل، ولكنها الدول. الآيديولوجيات توفر الغطاء، ولكن الهدف تقرره الدول، وكل ما دون ذلك مجرد «بيادق» على رقعة شطرنج. وفي الشطرنج، المهم ألا يموت الشاه، ولكن لماذا لا يموت الشاه؟ لأن موت الشاه يعني نهاية اللعبة، واللعبة يجب أن تستمر. قد يمثل الشاه في اللعبة، لعبة الأمم، شاها حقاً، وقد يُمثل رئيساً، وقد يُمثل زعيم حزب أو جماعة، أو قد تكون الدولة برمتها، ولكن أيا من هؤلاء يبقى الشاه الذي تجب حمايته، أما البيادق، فهي ثملة باعتقاداتها، غير عالمة بأنها مجرد بيادق تُحرك، وفي ظنها أنها تتحرك، وذلك مثل حجر الفيلسوف سبينوزا، الذي قال عنه ما معناه: لو سألت حجراً قُذف من عل هل أنت حُر، لقال بكل ثقة نعم..

وفي النهاية لا أقول أن ناصر ولينين وكاسترو ونكروما والخميني ونجادي والأسياد في إيران ولبنان والعراق لم يكونوا صادقين في «تبشيرهم»، ولكني أقول إنه ما أن تنتهي الثورة تبدأ الدولة، وللدولة منطق مختلف. نجادي لا يجد بأساً من التفاوض مع شيطان الخميني الأكبر، إذا كان في ذلك تحقيق لأهداف الدولة الإيرانية في السيطرة. ومقتدى يرفض المشاركة في العملية السياسية في العراق، حتى يرحل «المحتل»، كما صرح أخيراً، وهو الذي شارك في العملية قبل ذلك، وما كان له أن يُشارك لولا الاحتلال وسقوط صدام، ولكنه البحث عن اعتراف في النهاية. كان عبد الناصر قومياً عربياً لا شك في ذلك. وكان الخميني مسلماً متحمسا لا شك في ذلك. وكان لينين شيوعياً مخلصاً لا شك في ذلك، وكاسترو يُحب كوبا لا شك في ذلك، ولكن، ما أن يصل هؤلاء للسلطة، تنقلب الأوضاع. يُصبح هم ناصر «تمصير» العرب، ويُصبح هم لينين «روسنة» العالم، ويُصبح هم الخميني «تشييع» العالم، ولا غرابة في ذلك، فالكل ينشأ وفق بيئته: فناصر كان يرى في عالم العرب فساد مصر، وما هو صالح لمصر لا بد أن يكون صالحاً لكل العرب. والخميني كان ينظر من منظار «تآمر» الجميع ضد أهل البيت، ولينين كان يرى السلطة بعين أخيه المعدوم، وكاسترو كان يرى كوبا بعين المواطن المنبوذ في بلد يتمتع «اليانكي» وشركاته بخيراته. ولكن الجميع عندما يصلون إلى السلطة، تحتويهم السلطة، كما تُحيط خيوط العنكبوت بحشرة علقت في شباكه، فلا يعود فرق بين ناصر وفاروق، كاسترو وباتيستا، الخميني وبهلوي، ولينين ونيقولا.. في النهاية، يتحول الجميع إلى بيادق على رقعة شطرنج..