هل يأتي الخلاص الفلسطيني من موسكو؟

TT

هل يأتي الخلاص من موسكو؟

لقد طرح هذا السؤال نفسه في ظل الإدراك بأن الشحنة التي حاول مؤتمر أنابوليس أن يعطيها لمفاوضات التسوية قد فشلت. وبما أن عقد اجتماع ثان في موسكو لمتابعة الجهود، هو أصلا اقتراح من اقتراحات مؤتمر أنابوليس، فقد شد الرئيس محمود عباس الرحال الى العاصمة الروسية، داعيا ومبشرا بضرورة عقد اجتماع دولي ثان هناك، لعل وعسى يتم اجتراح المعجزة.

يعرف الرئيس عباس أكثر من غيره، أن إسرائيل لا تحبذ عقد مؤتمر موسكو، وذلك لأنها رفضته وسترفض أي دور آخر دولي في مفاوضات التسوية مع العرب. وأصرت وستصر على أن تبقى الولايات المتحدة الأميركية وحدها، هي الراعية الوحيدة لهذا التفاوض الذي لا ينتهي. ومع ذلك يصر الرئيس عباس على أن يستنجد بموسكو، وإذ تبدو موسكو جاهزة ومتحمسة لأداء هذا الدور، إلا أنها تصطدم دائما بالبرود الاسرائيلي، الذي قد يتطور في أية لحظة الى إظهار عدم الرضى، أو قد يتطور أيضا الى إعلان الرفض، ولذلك تبدو زيارة عباس الى موسكو وكأنها زيارة تستهدف رفع العتب فحسب، فالرئيس الفلسطيني يستطيع أن يقول إنه حاول وحاول، ولكن المشكلة عند إسرائيل. وهو هنا يكسب صداقة موسكو دون أن يخسر شيئا.

ولكن زيارة عباس لموسكو تتم في ظروف غريبة، فمنذ لحظة سفره زادت إسرائيل من هجماتها على قطاع غزة، وارتفعت حدة الاشتباكات بين الجيش الاسرائيلي ومقاتلي حماس، وكان لافتا للنظر أن يقوم الجيش الإسرائيلي بحملة عسكرية قوية في الضفة الغربية، وأن لا تحظى هذه الهجمة الإسرائيلية إلا بتصريح خجول صادر عن الرئاسة، يدعو الى وقفها، وتتصرف إسرائيل هنا بطريقة لافتة للنظر، فهي تقوم بهجماتها من دون أي التفات الى المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية الجارية، وكأن إسرائيل تعمل على خطين متوازيين لا يلتقيان ولا يتفاعلان: خط يفاوض وخط يضرب ويدمر، ولا أحد يتوقف ليسأل: ما هو هدف التفاوض إذا لم يؤثر على حجم العمليات العسكرية؟ وما هو هدف العمليات العسكرية إذا لم تؤد الى التأثير على عملية التفاوض؟ ولا جواب يبدو واضحا على هذه المسألة، سوى الاستنتاج بأن الكل هنا يمارس أدوارا، ولا يدير عملية تفاوض. وإذا كانت وفود التفاوض تتباهى أحيانا بأن خمسين اجتماعا تم عقدها حتى الآن بين أحمد قريع وتسيبي ليفني، فإن رقم الخمسين هذا هو بحد ذاته إعلان عن الفشل. فلا أحد يستطيع القول الآن، بعد خمسين اجتماعا وأكثر، أن عملية التفاوض قد سارت خطوة واحدة الى الأمام. فهل ستتغير هذه الصورة حين يعود عباس من موسكو؟ هل ستنفع اللغة الروسية في تحريك ما عجزت عنه اللغة الانجليزية بلكنتها الأميركية؟ سيبقى السؤال مطروحا، وربما لن يجيب عنه أحد، بل ربما لأنه سؤال لا يحتاج الى جواب.

الأغرب من زيارة الرئيس الفلسطيني الى موسكو، لتحريك مياه متجمدة، موقف سياسي جديد أعلن عنه قبل سفره. وأصر الإعلام العربي والدولي أن لا يلتفت إليه، قال الرئيس عباس قبل سفره (يوم 14/4/2008)، وخلال حضوره الاجتماع الأسبوعي للحكومة الفلسطينية «إن الاتفاق الفلسطيني مع إسرائيل يجب أن يكون اتفاق إطار، يحدد كل قضية، ثم نذهب بعد ذلك الى اتفاق على التفاصيل والخرائط»، ويمثل هذا الموقف أكبر خطوة تراجعية يقوم بها الرئيس عباس منذ أن بدأ مفاوضات مع أولمرت، قبل أنابوليس وبعده، فقد كانت نقطة القوة في موقف عباس أنه يرفض اتفاق إطار، ويرفض «اتفاق إعلان مبادئ»، ويصر على مفاوضات عملية تبلور اتفاقا نهائيا واضحا. وها هو يعلن فجأة أنه تراجع عن ذلك، وأصبح مستعدا للموافقة على «اتفاق إطار» فحسب.

الرئيس محمود عباس أعلن هذا الموقف الجديد والمفاجئ، والذي ينسف كل نظريته التفاوضية، قبل أن يذهب الى موسكو، وما دام قد تبنى هذا الموقف، يبرز السؤال: لماذا إذاً الذهاب الى موسكو؟

ربما يكون الجواب في مكان آخر. ففي يوم 20/4/2008 سيصل الرئيس محمود عباس الى واشنطن للالتقاء مع الرئيس جورج بوش. ويبدو أن الرئيس بوش ينتظر منه موقفا يبرز «تقدم الجهود باتجاه السلام»، وهو ذاهب الى هناك ليزف له البشرى بالاتفاق حول «اتفاق المبادئ»، بحيث يستطيع الرئيس الأميركي القول بأن سياسته لم تفشل، وسارت خطوة الى الأمام. والغريب في الأمر أن الرئيس الفلسطيني يقدم هذه الهدية للرئيس الأميركي وهو يستعد لزيارة إسرائيل من أجل أن يشاركها احتفالاتها بمرور ستين عاما على إنشائها. أي بمرور ستين عاما على النكبة الفلسطينية؟ فهل سينال الرئيس الفلسطيني ثمنا مقابل ذلك؟ لا أحد يستطيع أن يجيب عن هذا السؤال، ربما لأنه أيضا سؤال لا يحتاج الى جواب.

مصادر مطلعة قالت إن فكرة «اتفاق الإطار» هي فكرة إسرائيلية، عرضتها إسرائيل على الإدارة الأميركية، والإدارة الأميركية هي التي طلبت من الرئيس عباس أن يوافق على هذا الاقتراح كخطوة الى الأمام على طريق المفاوضات، وحسب النظرية الشهيرة القائلة بأن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة. ونسجل هنا، أن الرئيس عباس كان التقى إيهود أولمرت اللقاء الأسبوعي المقرر بينهما، ثم التقاه فجأة للمرة الثانية، بعد أيام قليلة من اللقاء الأسبوعي. وفي ذلك اللقاء المفاجئ تم الاتفاق على «إعلان المبادئ».

إلا أن غرائب الوضع الفلسطيني لا تقف عند هذا الحد، فقد شهدت الضفة الغربية في الأسبوعين الماضيين حملة شاملة من الإضرابات، إضراب الموظفين وإضراب المعلمين. وطالب المضربون حكومة سلام فياض بتحسين أوضاعهم المعيشية. حمل الإضراب مظهرا نقابيا، ولكن الكل يعلم أنه كان إضرابا سياسيا، نظمته حركة فتح ضد حكومة سلام فياض، لأسباب تتعلق بإبعاد حركة فتح عن كل المناصب الوزارية. ولكن مفاجأتين حدثتا أثناء الإضراب:

المفاجأة الأولى: أن رئيس الحكومة سلام فياض تحدى المضربين، فرفض الاعتراف بمطالبهم، ثم زاد من تحديه لهم برفع دعوى ضدهم أمام المحكمة العليا الفلسطينية، موجها لهم تهمة (إلحاق الضرر بالمصلحة العامة). وتجاوبت المحكمة مع موقف فياض وأصدرت حكما بوقف الإضراب. ولم يكن أمام المضربين سوى أن يرضخوا لهذا الأمر القضائي.

المفاجأة الثانية: وقعت بعد صدور الحكم مباشرة، إذ توجه الرئيس الفلسطيني الى مجلس الوزراء ليحضر اجتماع المجلس الأسبوعي، وهناك أبلغ الحكومة أنه يدعمها ضد المضربين، وعبر عن دعمه بطريقة حميمة، حين صافح الوزراء فردا فردا، وقبلهم فردا فردا، وزاد على ذلك وقال لهم إن دوافع الإضراب شخصية، مع وجود بعض الدوافع الموضوعية.. وقيل إن كل هذا حدث بعد أن هدد سلام فياض بالاستقالة.

وهكذا وجدت حركة فتح نفسها في مواجهة مع الحكومة، ومع القضاء، ومع الرئاسة الفلسطينية. ولم تستطع أن تصمد أمام كل هذه التحديات، ففضلت الانسحاب من المعركة، وهو انسحاب ستكون له نتائجه الأكيدة المقبلة، وبخاصة أن اتفاق الإطار «العتيد» لن يستقيم أمره، ولن تتوفر الرعاية الأميركية الجليلة، إلا إذا كان سلام فياض رئيسا للحكومة، وإسرائيل تعرف ذلك، والرئيس عباس يعرف ذلك، وآن لحركة فتح أيضا أن تعرف ذلك. وهذا ما تم فعلا.

لقد زار الرئيس الراحل ياسر عرفات موسكو رسميا للمرة الأولى في شهر فبراير (شباط) 1970، وسئل يومها عن نتائج الزيارة فقال: إن ثلوج موسكو دافئة. ولكن الرئيس عباس يزور موسكو وقد ذابت الثلوج كلها. ولا ندري إن كان هذا فألاً طيباً أم سيئاً.