تجسير العلاقة بين الفن والمثقفين

TT

أكتب بين حين وآخر في صفحات «الوتر السادس» في هذه الصحيفة أوراقاً خاصة عن حياة رواد الغناء والموسيقى في السعودية، فكتبت عن طارق عبد الحكيم، طلال مداح، محمد عبده، فوزي محسون، عبد الله محمد، عمر كدرس، وكان آخر ما كتبته الجمعة الماضية عن الملحن وصانع النجوم الفنان سامي إحسان.. وحفلت تلك الأوراق التي كتبتها بالكثير من المواقف الشخصية التي عشتها مع أولئك النجوم من خلال صداقات وعلاقات خاصة ربطتني بهم، فالحياة في مدينة جدة حتى عهد قريب كانت على درجة كبيرة من الثراء الاجتماعي، فلياليها حافلة بالأنس واللقاءات الحميمة. وكانت العلاقة بين الأدباء والإعلاميين والفنانين وثيقة جداً، فبقدر حرص الأديب والإعلامي على تذوق الأعمال الفنية، كان لدى الفنان شغف مماثل بالأدب والفكر والإعلام، الأمر الذي طبع مرحلة من حياة هذه المدينة بالإبداع، فكنتَ ترى في مجالس الفنانين أدباء وإعلاميين بارزين أمثال: طاهر زمخشري، عزيز ضياء، أحمد قنديل، عبد الله الجفري، عبد الله مناع، أمين عبد المجيد، وآخرين. كما تجد في مجالس الأدباء فنانين بارزين كطلال مداح، ومحمد عبده، وغازي علي، وفوزي محسون، وسراج عمر، وغيرهم..

اليوم ثمة إشكالية في العلاقة بين الفنانين والمثقفين في الساحة المحلية، فالكثير من الفنانين اكتفوا بجمهورهم من عامة الناس، وتفاعلوا مع ذوقهم السائد بدون أن يلقوا بالا لمن يمكن أن نطلق عليهم النخب المثقفة، ولربما تلك النخب أيضا أدارت ظهرها هي الأخرى لهذه الشريحة من الفنانين، وغدت المسافة بين الطرفين شاسعة جرداء، فلم يتقبل المثقف غرور الفنان، ولم يرتض الفنان نقد المثقف. ونشأ عن هذه القطيعة غياب الأغنية التي تخاطب هذه النخب باستثناءات محدودة جداً..

ونفس الظاهرة عاشها الفن المصري. فلقد نشأت في مصر أيام الفن العظيم روابط وثيقة بين الفنانين والنخب الثقافية، فارتبط محمد عبد الوهاب ـ كمثال ـ بالكثير من رجالات عصره البارزين كأحمد شوقي، وطلعت حرب، وعباس محمود العقاد، وتوفيق الحكيم، وهو يعترف بأن لهؤلاء تأثيرهم على تكوينه الفني والثقافي بصورة عامة. وأورد عادل حسنين، صاحب كتاب «الصبا والجمال» أبياتاً للعقاد في مديح عبد الوهاب منها:

«إيه عبد الوهاب إنك شاد

يطرب السمع والحجا والفؤاد

قد سمعناك ليلة فعلمنا

كيف يهوى المعذبون السهاد».

وأفرزت تلك العلاقة ذلك الفن العظيم الذي شهدته مصر، والذي تراجعَ بتراجعِ هذه العلاقة..

المطلوب اليوم إعادة تجسير العلاقة بين الفنانين والمثقفين، أو بين الأغنية الحديثة والنخب المثقفة، فمهمة الفن العظيم الارتقاء بذائقة الجمهور، لا التحول إلى «ما يطلبه المستمعون».. فمن يجمع الشتيتين؟

[email protected]