ما هو دور علماء السعودية في التنمية؟

TT

في مقهى كلية جون كندي للدراسات الحكومية، دار بيني وبين أحد أساتذة العلوم السياسية في جامعة هارفرد الأمريكية نقاشاً مطولاً، طرح فيه أسئلة عدة ومنها: لماذا رجال الدين لديكم متطرفون، ويحرضون على الكراهية، ولا يقبلون بالتطور؟ وما هي العلاقة بينهم وبين الدولة؟ فبينت له من البداية بأن مصطلح «رجال الدين» لا يستخدم لدينا، وإنما نقول «علماء الشريعة»، فرد بفتور بأنه لا مشاحة في المصطلح، قلت نعم لا مشاحة في المصطلح، ولكن المشاحة في فهم المصطلح، ففهمكم لدور رجال الدين في أوربا القرون الوسطى، وما كانت تمثله الكنيسة من تسلط وعائق أمام التقدم، هو ما جعلكم تسقطون مصطلح رجال الدين على علمائنا. عندها طلب مني التوقف والإجابة على أسئلته فأوضحت له بان إجابتي ستكون عبارة عن نبذة مختصرة وتاريخية عن بلدي ودور علمائها ولكن قبل البدء في ذلك دعني أطرح عليك سؤالاً: ألا يوجد في أمريكا، البلد الذي وضع أول رجل على القمر، من يرفض كل مظاهر المدنية والحضارة؟ ويمارس العنصرية والكراهية؟ قال نعم هذا صحيح، قلت، إذن الأمر ليس مقصوراً، على شعب بعينه، أو على دين بذاته، بل هي حالة إنسانية، مرت بها كل المجتمعات، ومازالت بعض المجتمعات، تعاني منها، بل تجاوز ذلك أن الرفض كما هو حاصل لديكم الآن في أمريكا، تم بعد تجربة طويلة مارسها هؤلاء مع الحضارة، والمدنية، والديمقراطية، والتسامح، وحقوق الإنسان، ومع ذلك وصلوا إلى ما وصلوا إليه من العزلة، والعنصرية، والكراهية. وهذا يتنافى مع عقائدكم الدينية والدنيوية أليس كذلك ؟ قال: نعم، قلت، إذا كان الأمر لديكم كذلك، فنحن أيضاً لدينا رفض للمدنية، ولدينا كراهية، وعنصرية من بعض الأفراد، ليس في الماضي فقط بل حتى في الحاضر، ولكنهم ليسوا من العلماء الذين تعنيهم، علماً بأن هذا مناقض لتعاليم ديننا وتقاليدنا، وإن كانت هناك رؤية شرعية شاذة من بعض المنتسبين للعلم الشرعي فهي لا تُعتَبر الطابع العام للاجتهاد والواقع لدى علمائنا.

أعود وأحدثك عن بلدي فأقول: لقد أسس الملك عبد العزيز ـ رحمه الله ـ مفهوماً للدولة السعودية الحديثة يختلف عن المفهوم السياسي الذي جاء به (روسو) في عقده الاجتماعي، بأن الناس قد تعاقدوا فيما بينهم على إنشاء دولة تكون من مقتضياتها أن تسير وفق إرادة الشعب أو أغلبيته.

فمفهوم عبد العزيز للدولة، هو امتداد للمفهوم الشرعي القائم على العقيدة الصحيحة، الذي قامت عليه الدولة السعودية الأولى، بمعنى أن الدولة لدينا لم توجد بتعاقد دنيوي بين الناس وإنما وجدت بفضل تمسك المواطنين أنفسهم بالدين، واعتقادهم الراسخ بوجوب السمع والطاعة لولي الأمر، ومبايعة ولي الأمر على ذلك، فبناء هذا الكيان لا شك أنه قام على أساس الوحدة الوطنية، التي حققها عبد العزيز بين فئات المجتمع في الجزيرة العربية، إلا أن ذلك ما كان ليتحقق في ظل القبيلة وتفرعاتها، والإقليمية وخلفياتها، والطائفية واختلافاتها، لذلك أدرك الملك عبد العزيز السياسي، وعبد العزيز المـؤمن بعقـيدته، أن تحقيق تلك الوحدة وبناء الدولة في الجزيرة العربية، لا يمكن أن يتحقق في بيئة كتلك، إلا بوجود العقيدة كعامل وحدة، وبالتالي قيام الدولة لدينا، غير مدين للناس، أو للشعب، كما جاء في نظرية روسو، بل مدين للدين ولولي الأمر المطبق للشريعة، من أجل هذا حرص عبد العزيز في حكمه للدولة السعودية الثالثة، وفي بناء مؤسساتها وأنظمتها على إخضاعها للشرع، ومن خلال استشارة العلماء، يقول رحمه الله «وإني أنفذ القول الذي يجمع عليه العلماء، والقول الذي يقع الخلاف بينكم فيه أيها العلماء، فإني أعمل فيه عمل السلف الصالح، إذ أقبل ما كان أقرب إلى الدليل من كتاب الله وسنة رسوله أو قول أحد العلماء الأعلام المعتمد عليهم عند أهل السنة والجماعة» خير الدين الزركلي ـ شبه الجزيرة العربية في عهد الملك عبد العزيز 1985م.

تلك هي العلاقة بين ولي الأمر وبين العلماء لدينا، علاقة قائمة على مبدأ السمع والطاعة، في المنشط والمكره لولي الأمر في تطبيق الشريعة وليس دور الوصاية كما كان دور رجال الدين لديكم في القرون الوسطى.

فخطط التنمية لدينا، والأنظمة المُنفِذَة لها، وضعت بناءً على معرفة عميقة لمتطلبات المجتمع السعودي، وإمكانية تطور هذه الحاجات عبر الزمن، إلا أن هذا لا يعني أن أنظمة الدولة لدينا متطورة فتتكيف مع الواقع، أياً كان دونما اعتبار للأصل الأساس الذي قامت عليه هذه الدولة، وهو العقيدة الصحيحة، والوحدة الوطنية، فالأنظمة في المملكة بوجه عام، تتضمن الأساس الذي لا حيد عنه وهي الاحتكام لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، إلا أنها أيضاً مرنة فيما تبقى من المواضيع القابلة للتطور والتغيير، فقد جمعت الثبات في الأسس والمرونة في التكيف.

يقول الشيخ محمد بن ابراهيم آل الشيخ ـ رحمه الله ـ مفتي الديار السعودية في زمانه «وحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لا يُختَلَفُ في ذاته باختلاف الأزمان وتطور الأحوال وتجدد الحوادث، فإنه ما من قضية كائنةً ما كانت إلا وحكمها في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، نصاً، أو ظاهراً، أو استنباطاً، أو غير ذلك، علم ذلك من علمه، وجهله من جهله» (الفتاوى).

وقد أدى علماؤنا ومازالوا في مراحل البناء، دوراً محورياً في تحقيق الأمن، والاستقرار، والتنمية، فهم يملكون من التأثير على سائر أفراد المجتمع، ما يجعلهم بحق محط المسؤولية الأولى، عن قبول المجتمع للتفاعل مع توجهات الدولة في سنها للأنظمة، وفي خططها التنموية، ولو عدنا إلى الوراء قليلاً، لوجدنا بأن أول خطة تنمية على مستوى هذه الدولة، هي توطين البادية في الهجر، والتي تعتبر في نظر الكثير من علماء السياسة والاجتماع، من أهم مراحل بناء الدولة السعودية الحديثة، يقول الزركلي «سلخ الترك خمسـمائة عام في بعض أطراف الجزيرة جاهـدين لتحضير أحاد من البدو، فلم يفلحوا وفي بضع سنوات من حكم بن سعود انقلب العدد الجم من أهل المضارب والخيام إلى سكان قرى ومدن».

وقد كان للعلماء وبتوجيهات من الملك عبد العزيز ـ رحمه الله ـ دور مهم في تطبيق ونجاح تلك الخطة، كما استطاع العلماء أيضاً أن يُكيفوا كثيراً من المستجدات العصرية، التي طرأت على حياة الناس، ووسائل عيشهم تكييفاً شرعياً، وبينوا للناس الرأي الشرعي في كثير من المفاهيم المغلوطة، مما ساهم في نجاح مشروع التنمية، في مراحله الأولى وهيأ المجتمع لمراحل البناء القادمة.

يقول الزركلي عن أحد لقاءات الملك عبد العزيز بالإخوان: «ونهض أحد الحضور فقال إننا لا نعرف ما يُنتقد إلى (الأتيال) ـ يريد اللاسلكي ـ فيقال إنه (سحر) ولا يخفى حكم السحر والسحرة في الإسلام فأجابه عبد العزيز ليقل العلماء رأي الإسلام في (الأتيال)، فأفتى العلماء بأنهم لم يجدوا في القرآن والسنة أو قول أحد العلماء ولا من أخبار العارفين دليلاً على تحريم (الأتيال)، وأن من يقوم بالتحريم يفتري على الله الكذب ونبرئ الله منه». وبعد اكتشاف النفط، بدأ الاتصال الموسع بالعالم الخارجي، وانضـمت المملكة للأمم المتحدة، بعد أن اعترفت جميع الدول بها، وأقامت العلاقات الدبلوماسية معها، وبدأت الوفود والشركات الأجنبية، وخاصة الغربية، بالتوافد على المملكة، فما كان موقف العلماء من ذلك؟ كان موقفاً مسانداً للدولة، ولم ينبري أحدهم ليقول أخرجوا الكفار من جزيرة العرب، أو يكفر الأمم المتحدة، كما جاء به غير العلماء من معتنقي الفكر الديني المسيس في وقتنا الحاضر.

وفي عهد الملك فيصل ـ رحمه الله ـ تم إقرار النقاط الإصلاحية العشر التي تعتبر نقلة نوعية في مسار الإصلاح والتطور، وتم افتتاح مدارس للبنات، وكان للعلماء دور محوري في قبول المجتمع بكل ذلك.

ورغبة في عدم الإطالة في حديثي مع البروفسور توقفت وسألته: هل تريدني أن استمر معك في الحديث عن دور العلماء في وقتنا الحاضر وإسهامهم فيما وصلت إليه بلدي من تطور؟! فقال سمعت ما فيه الكفاية، وعليّ أن أعود للبحث عما حدثتني عنه، فما سمعته من أحد السعوديين المقيمين في واشنطن، في ندوة عرضتها محطة c.span، تطرق فيها لدور العلماء لديكم، هو خلاف ما ذكرته لي عن الدور الإيجابي والمعتدل في نظرتهم للتنمية والتعامل مع الآخر، إلا أنني وبكل أمانة لم أقتنع بالطرح الذي سمعته من ذلك المتحدث، ولكن في غياب الطرف الآخر من المعادلة، دائماً ما يكون الطرف الحاضر هو المؤثر، بغض النظر عن موضوعيته وأمانة طرحه، وأنا أدرك أنه من الصعب إصدار الأحكام العامة على الأحداث والظواهر، ذات العوامل المشتركة، والأساليب المتداخلة، والحكم في موضوع كهذا، يعد استعجالاً يتنافى مع الموضوعية، لذلك حرصت على لقائك ومناقشتك لأصل للحقيقة، وكوني مختصا في العلوم السياسية أُدرك أن السعودية هي قلب العالم الإسلامي، وهي رئة الاقتصاد العالمي، فاستقرارها ونموها مهم جداً للعالم الإسلامي والغربي على حدٍ سواء، فلقائي بك كان نافذة رحبة لإشباع فضولي السياسي عن بلدكم، فسألته: وهل أشبعت فضولك؟! قال نعم ولكن لابد أن يبقى الطرف الآخر من المعادلة حاضراً، وباستمرار فالمتربصون بكم كثر والتحديات أمامكم كبيرة!

وفي رحلة العودة إلى المملكة أخذت أستعرض ما دار بيني وبين ذلك العالم السياسي الضليع والمتواضع، وأسأل نفسي عن تلك التحديات فوصلت إلى قناعة بأنه مهما كانت تلك التحديات فقد واجهنا في السابق أكبر منها، فالنسبية في النظر للأمور، تجعلك تدرك أن تلك التحديات، التي واجهناها لبناء هذا الكيان، كان الفارق بينها وبيننا هو الفارق نفسه، الذي يفصلنا عن تحديات هذا العصر، بل ربما كان الفارق أكثر، وكان التحدي أكبر في وقتها، وقد اختلفنا حولها، وسبل التعامل معها، ورغم ذلك تمكنا من إيجاد كيان سياسي، اقتصادي، اجتماعي، متجانس وموحد، جعل الجميع يلتزم بقواعد الوحدة الوطنية، فكوّنا ثقافة موحدة الروح، وإن تباينت جوانبها وظواهرها، ركيزتها عقيدة صحيحة، ومنهج إسلامي وسطي، يؤهلها لمقابلة العصر وتحدياته، للتأسيس عليها لاستمرار هذا الكيان وتجدده، بما يتلاءم مع متطلبات العصر والانفتاح على العالم، والمسألة ليست في إيجاد البديل عن ثوابتنا وقيمنا، إنما تحقيق القدرة علـى التواصل مـع الأمم الأخرى، وتلاقح الأفكار معها لبناء مشروعنا الحضاري وضمان استمراريته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها». ومن خلال التيسير المحقق للمصلحة في جميع المجالات سوف نكون بإذن الله دعاة دين، وبناء، ونماء.

[email protected]