المستر كارتر.. وجحيم النيات الحسنة

TT

* «الطريق إلى الجحيم مرصوف بالنيّات الحسنة»

(مثل إنجليزي)

عندما أُخذ الرهائن الأميركيون في طهران خريف 1979، اختار ثوريّو إيران الخمينية إذلال جيمي كارتر. كارتر الطيب المتديِّن، كان عند الشباب الإيراني المتحمّس يومذاك ممثل الشيطان الأكبر ـ كما أخبره الإمام ـ، ولذا وجب إذلاله وإلحاق الهزيمة به مهما كانت العواقب.

العواقب، طبعاً، يتذكرها جيداً مَن عاش تلك الحقبة من العد التنازلي للحرب الباردة.

فقد أطل على العالم رونالد ريغان و«حربجيته» على أنقاض رئاسة كارتر، الذي صوّرته الأحداث يومذاك سياسياً عاجزاً ساذجاً.

ففي أذهاننا نحن العرب... صدّق كارتر أن معانقة مناحيم بيغن وأنور السادات في كامب ديفيد تكفي لبناء السلام في الشرق الأوسط.

وغلاة المحافظين الجمهوريين أقنعوا الشارع الأميركي... بأن رئيسه الضعيف مقتنع بأن مقاطعة أولمبياد موسكو رد كافٍ على السوفيات يوازي احتلال «الجيش الأحمر» أرض أفغانستان.

وردات الفعل على سياساته الدولية أشاعت عنه انطباعا ظالما بأنه مؤمن بأن المثاليات والنيّات الحسنة كفيلة بفتح أبواب التفاهم الدّولي الموصدة بفعل صراع المصالح. على أي حال، نهاية «مثاليات» التجربة الكارترية فتحت في واشنطن مع عهد ريغان صفحة شباب «المحافظين الجدد»... أو براغماتيي اليمين، المنتقلين إلى صفوفه من مواقع الديمقراطيين سابقاً فباتوا الأشرس في مقارعة الليبراليين والأقدر على معرفة ثغرات تفكيرهم. وجاء عام 1989 ليحقق ريغان (ونائبه جورج بوش «الأب») بعد عقد من الزمن انتصار أميركا التاريخي في الحرب الباردة.

سنوات ريغان ـ بوش «الأب» الـ12، مهما كان رأينا فيها، غيّرت العالم بأسره... لكنها لم تخلّص الديمقراطيين الليبراليين في أميركا من «طيبتهم». وحتى عندما نجح بيل كلينتون في إعادتهم ـ على الرغم منهم تقريباً ـ إلى نعيم السلطة، فإنهم ظلوا أسرى «عقدة الذنب» و«الطيبة» التواقة إلى الاعتذار من كل الناس وعلى أي شيء.

وبصراحة، سنوات جورج بوش «الابن» الثماني تتطلب حقاً من واشنطن توزيع الاعتذارات بالجملة على كثيرين من ضحايا سياسة عاتية اتّسمت بالصلف والتفرّد والعدوانية وازدواجية المعايير والاستخفاف بنصائح الأصدقاء، بصورة غير مسبوقة، على أيدي «المحافظين الجدد» الناضجين في «ظهورهم الثاني». إلا أن ما يروّج له اليوم جيمي كارتر بحلته «القدّوسية» الجديدة ليس الحل الأمثل.

نعم ارتكبت الإدارة الجمهورية الحالية خطايا فظيعة، لكن العودة إلى سذاجة حقبة مطلع الثمانينات، بسوء فهمها ومن ثم سوء معالجتها للأزمات العالمية والإقليمية الشائكة لا تعدنا بالحلول الناجعة. فهي لن تقدّم غير تسكين مؤقت من دون تحقيق النجاح المأمول، مما سيؤدي من جديد إلى «ظهور ثالث» للمحافظين البراغماتيين، يرجح أن يكون أكثر حقداً وصلفاً وأشد عدوانية وشراسة.

الحق الفلسطيني لا جدال فيه، وتقصير واشنطن في احترامه لا يقبل أي تبرير، وخذلان المجتمع الدولي التجربة الديمقراطية في الأراضي الفلسطينية جريمة حقيقية... لكن هل يمكننا تصوّر أن تكون قوى أصولية كـ«حماس» و«الجهاد الإسلامي» هي القوى المجسّدة لمستقبل فلسطين؟ وإذا كان الأمر كذلك، فكيف علينا بعد ذلك أن نستفظع التعصّب اليهودي الصهيوني وهذيان الجماعات التوراتية وأحلامها التوسعية وبذاءة أوصاف الحاخام الأكبر أوفاديا يوسف العنصرية ضد العرب والمسلمين؟

أيضاً، مفهوم تثمين المواطن الأميركي والأوروبي حق إسرائيل في الدفاع عن النفس... ولكن هل يجوز منطقياً ان تتوقع واشنطن سكوت كل شعوب المنطقة عن احتكارها السلاح النووي؟ وها نحن الآن إزاء الحالة الإيرانية... بأي منطق تمنع طهران من تطوير السلاح النووي إذا كان لإسرائيل سلاحها ولباكستان سلاحها؟

ولكن في المقابل، هل يمكن السماح لنظام كالنظام الإيراني، لديه مفاهيم خاصة لدوره وممارساته وواجباته ضمن الأسرة الدولية، أن يتمتع بالقدرة النووية التي تتيح له حرية الهيمنة على جيرانه ومواردهم والعبث بأمنهم الداخلي، بل تفجير مجتمعاتهم من الداخل، ساعة يشاء؟

إن على الليبراليين الأميركيين، وكلّهم اليوم في معسكر الحزب الديمقراطي، أن يحاولوا فهم العالم وحقائقه المرة ليس فقط من ثقب إبرة خطايا عهد بوش «الابن». فلا شك في أن الكثير مما فعلته هذه الإدارة خلال فترتين رئاسيتين سيئ للغاية، سواء على الصعيد الداخلي الأميركي أو الصعيد الدولي. وكان مؤسفاً أن نصيباً وافراً من هذه التركة السيئة سهّلت تقبّله في أوساط الناخبين الأميركيين اعتداءات 11 سبتمبر/أيلول 2001 التي أدت إلى ردة فعل متطرّفة متشنجة، استخفّت بالحريات وأضرّت بالتعايش، وولدّت مزيداً من التعصّب والنفور العرقي والديني في مختلف الاتجاهات. غير أن الواقع بعد الممارسات السيئة ليس هو الذي كان قبلها. فالعالم تغيّر... والتحديات تغيّرت. ومَن يهدم بيتاً عامراً ثم يشعر بالخطأ الذي ارتكبه، من واجباته إعادة بناء ما تهدم... لا نفض يديه مما فعله... قبل أن يوفر على الأقل خيمة فوق رؤوس من هَدَم بيتهم. واليوم على واشنطن، بغض النظر عمن سيفوز في انتخابات الخريف المقبل، تبديد هواجس أهل المنطقة والسعي جدياً لإعادة بناء ما تهدّم... على أسس صحيحة تتوافق مع مبادئ التعايش والتسامح وحقوق الإنسان، لا نقض كل ما فعلته الإدارة الحالية نكايةً بها ومناكفةً لها وانتقاماً منها.

الشرق الأوسط حمل في الماضي وسيحمل في المستقبل تحديّات كبيرة جداً لواشنطن. وحبذا لو تختار قيادتها الجديدة سياسة عاقلة وواعية ومسؤولة لها حد أدنى من الانسجام مع الشعارات الأخلاقية البرّاقة التي ادعت إدارة بوش «الابن» تبنيها، لكنها إما جبنت عن ذلك كما فعلت مع الملف الفلسطيني ـ الإسرائيلي، أو طبقت جزءاً منها ولكن بطريقة سيئة أفادت حتى الآن خصومها كما فعلت بالملف اللبناني ـ السوري، أو نفذّتها بحسم كامل ولكن بطريقة مغلوطة وكارثية... كحال الملف العراقي.

نيات الرئيس كارتر ـ طبعاً ـ تستحق الإعجاب، لكن على من سيحتلّ البيت الأبيض في الخريف المقبل إدراك أن التعصب الطائفي الجامح، والديكتاتوريات القمعية الفاسدة، وسياسة «الكيل بمكيالين» آفات مدمّرة لا يمكن ان تتعايش مع السلام المنشود... ولن تشتري للولايات المتحدة راحة البال.