الكارت الأحمر

TT

صدق أو لا تصدق أن التوق المتصل إلى قمة النجاح يتسرب إلى دهاليز نفسك ويقلص قدرتك على الإحساس بالبهجة وامتصاص المعرفة. هذا التوق يجعلك في حالة مستمرة من الدفاع عن ذاتك كلما خيل إليك أنك لم تنجح فيما تفعل. هذه الحالة تقلص إبداعك وقدرتك على الابتكار. فالابتكار يرتبط بعنصر المجازفة. والمجازفة تنطوي على احتمالات النجاح والفشل.

إن لم تشعر بالرضا عن نفسك أصبح هذا الإدراك مدخلا للمشاعر السلبية التي تنهش طاقاتك بدلا من إطلاقها نحو الوصول إلى حالة الرضا والاكتمال. تخيل أنك لاعب متميز في فريق مشهور. وتخيل أن أحدهم يتربص بك في كل خطوة ملوحا لك بالكارت الأحمر. وتخيل أن ذلك الخصم ما هو إلا أنت، تشحن نفسك بالقلق من جراء سعيك المحموم لتقييم نفسك.

إذا كنت طالبا وحصلت على جائزة تفوق في العلوم مثلا، بدلا من الفرح بالجائزة يهمس لك صاحب الكارت الأحمر قائلا إن زيدا أو عبيدا حصل على جائزة اللغات ويوحي لك أنك فاشل في اللغة لأنك لم تحصد تلك الجائزة أيضا.

عاشق التفوق يخاف من الفشل ويخاف من الخطأ لأنه يرتعد من فقدان احترام الآخرين. ومعنى ذلك أن النجاح ليس هدفا وإنما الهدف هو تقييم الذات من خلال ما يراه الآخرون.

خلوت إلى نفسي هذا الصباح لكي أجد خيطا يوصلني إلى مكمن تلك التجارب التي يتآكل معها الإحساس بالرضا والأمان. وابتسمت وحدي حين تذكرت مثلا شعبيا يتعلق بالخنفساء التي رأت صغيرها على حائط فتصورته حبة من اللؤلؤ المنظوم. فتلك هي طبيعة الخلق. كافة المخلوقات ترى الجمال والكمال كله في الولد. سرا يتمنى كل أب وتتمنى كل أم أن يكون فلذات الأكباد أكثر ذكاء وأوفر حظا ومالا ونجاحا. وهي أمنية تولد معنا. وأكثرنا لا يقدر أنها دون سائر الأمنيات.. هي الصخرة التي تتعثر عليها مسيرة أولادنا نحو حالة السكون والرضا والاكتمال. فنحن بدون أن ندري نجعل حبنا لأولادنا مشروطا بقدرتهم على النجاح بمقاييس النجاح التي نحددها نحن.

هناك فرق بين التفوق وبلوغ الكمال. التفوق هو أن تستمتع بما تفعل، وتشعر بالغبطة حين تتعلم شيئا جديدا. تشعر بأن كل يوم جديد يعلمك المزيد وأن ما تتعلمه يصبح مصدرا للثقة. أما اشتهاء الكمال فهو أن تشعر بالفشل إن لم تحصل على الدرجات النهائية في كل شيء.

أذكر يوم تخرجي من الجامعة وكان ترتيبي الثانية بين الخريجين والخريجات مما أهلني للحصول على وظيفة أكاديمية وبعثة دراسية للسفر إلى الخارج. أذكر ما قاله لي والدي، مرشدي ومثلي الأعلى، قال: لو كنت بذلت القليل من الجهد الإضافي لكان ترتيبك الأولى. في تلك اللحظة تحول العود الأخضر الذي حمل زهرة النجاح في قلبي إلى عود يابس أعجف فبكيت.

بعد خمس وعشرين عاما كنت أما لطالبة تتأهب للتخرج من الجامعة سألتني: لو لم أحصل على مرتبة الشرف هل تغضبين؟ سألت: هل تجدين صعوبة في الدراسة؟ فقالت: بالعكس. ولكن الحصول على مرتبة الشرف يعني إلغاء كل شيء آخر من حياتي سوى هذا النوع من النجاح. فقلت اختاري. المهم هو التخرج.

تخرجت البنت وما زال لسان حالي يردد ما رددته الخنفساء عن حبة اللؤلؤ.