البحث عن كلبة لطيفة

TT

الكثير من الناس ـ وقد أكون منهم والعياذ بالله ـ ينسون أو يتناسون الصداقات القديمة، مع أنها (أصدق الصداقات) على الإطلاق، وقد يكون للزمن أو الظروف أو (العّزة بالإثم) دور بذلك، ولكن كل ذلك ليس عذراً ومبرراً للنسيان مهما كان.

والأسوأ من (السوء) نفسه، أن يكون ذلك النسيان ناتجا عن التكبّر والغطرسة، التي تتلبس بعض الناس عندما يتقلدون منصباً رفيعاً، أو ينالون قسطاً كبيراً من العلم أو المال، فيحتقرون تلك الصداقات والأصدقاء، فيمرون عليهم مرور اللئام وكأنهم لا يعرفونهم، وإذا سئلوا عنهم يتبرؤون منهم ويخجلون من ذكرهم.

عندما أقول هذا الكلام لا أنصّب نفسي فيلسوفاً أو حكيماً أو محامياً للمثل العليا والأخلاق الحميدة، أبداً والله، فأنا أعرف نفسي اللوامة والأمارة بالسوء أحياناً، ولكنني فقط أريد أن (أعري) الحقيقة ـ إن جاز تعبيري (السوقي) والمؤدب هذا.

نعم أريد أن أعري الحقيقة علّها تفيق، أو على الأقل أن تستحي على دمها مما هي فيه من دناءة.

ولا أستبعد أن هناك من يقرأ هذه الكلمات الآن، وبينه وبين صديق العمر من أيام الطفولة والصبا آلاف الفراسخ من البعاد والنسيان، في الوقت الذي قد لا يكون بين بيته وبيت صديقه المنسي ذاك غير عدّة شوارع، ولكنها للأسف بلوى (العقوق)، والعقوق بالمناسبة ليس هو فقط عقوق الابن لأبيه أو لأمه، ولكنه أيضاً لصديقه، وهذا أدعى للحزن والتفكّر.

فهل الحيوانات أكثر (إنسانية) منا في بعض الأحيان؟!

لا أستبعد ذلك رغم أنني لا أجزم.

وإلاّ كيف أفسر كلام ذلك الذي كان يربي كلباً ذكياً وشهماً عندما اخذ يحكي عن كلبه اللطيف المسمى (داريف) ويقول:

إنه كان لا يخطئ في إمساك أي دجاجة نريدها للذبح سوى ديك واحد، فقد كنا نطلب إليه مرة بعد مرة أن يمسك بالديك ولكنه كان إما أن يقعي ويحملق فينا وكأنه لا يفهم ما نقوله، أو يعدو هارباً.

وبعد التقصي عرفنا أن ذلك الديك كان قد أصابه عرج فأدخلناه في صندوق خشبي مع جرو صغير يتيم لمدة شهر كامل، فاتصلت الإلفة والصداقة بينهما، وكان ذلك الجرو هو (داريف).

كما أن ذلك الكلب فوق أنه مقدر ومحترم للصداقة، فهو أيضاً عاشق من الطراز الأول، ورغم قوته وشراسته وعدم تنازله لأي كلب آخر أن يأكل من طعامه أو يقترب منه، إلاّ أنه كان يتنازل بكل شهامة وأريحية لكلبة لطيفة ظريفة، ويسمح لها أن تأكل صحفة طعامه بكاملها، وكل ما يفعله أنه يظل ينظر لها صامتاً وهي تزدرد الطعام، ويقلب رأسه ذات اليمين وذات الشمال باستمتاع واضح.

وفي يوم من الأيام رأيناه وهو يقودها إلى مخزن الحبوب في حديقتنا ووجدناها راقدة في مكانه الذي ينام فيه يومياً، وبعد أسبوع وإذا بالكلبة تضع سبعة جراء كان كل واحد منها هو صورة طبق الأصل من (داريف).

يا ليتني كنت واحدا منها ـ على شرط أن أجد كلبة لطيفة ظريفة (توسع خاطري) ـ!!

السؤال هو كم واحد في هذا العالم يشبه (داريف)؟!

[email protected]