نقلنا سفارتنا ولم نغادر

TT

هذا ما قاله مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية للشرق الأوسط، ديفيد ولش، لكنه في واقع الأمر ليس دقيقا. فالخروج الأميركي تجلى بشكل واضح في سحب القوات الأميركية بوارجها سريعا من الشواطئ اللبنانية، والاحتفال المبالغ فيه بالإنزال الأميركي في جزيرة جرينادا، الذي قدم كنصر مبين لتغطية الهروب السريع من لبنان. بالفعل السفارة الأميركية في بيروت لم تغلق أبوابها بل انتقلت من حي الى آخر، وظلت العاصمة اللبنانية محط تردد الدبلوماسيين الأميركيين، لكن كانت هناك سلسلة هزائم متلاحقة من تفجير ضخم لمقر السفارة وهجوم جريء على مقر للمارينز وخطف لعدد من الأميركيين والأوروبيين، وكلها مرت دون أن تستطيع الولايات المتحدة الرد على أي منها، باستثناء اعتقال أحد المتهمين في عرض البحر.

وحتى تكون الصورة متكاملة فإن لبنان عام 83، الى حد مثل لبنان اليوم، مفكك ومتنازع عليه بين قوى داخلية وأخرى خارجية، كان قد سبقها إخراج قيادة منظمة التحرير الفلسطينية بكاملها على ظهر سفينة أبحرت الى تونس، في أعقاب الغزو الإسرائيلي للعاصمة اللبنانية. وكان الاضطراب واسع الأرجاء في إطار الصراع السوفييتي الأميركي الذي كان على أشده في المنطقة وفي أفغانستان أيضا. الحقيقة أن الأميركيين عجزوا عن إدارة الشأن اللبناني سواء على المستوى السياسي أو العسكري، ولا يزالون مترددين في الكيفية التي يمكن بها فك التشابكات المعقدة وذات الجذور العميقة في التربة المحلية ودول الجوار، حينها كان العراق طرفا فاعلا الى جانب إيران سورية وإسرائيل والفصائل الفلسطينية المنشقة على بعضها.

الانسحاب كان مقرونا حينها بتوضيح إن لبنان ليس بين الأولويات الاستراتيجية الأميركية، حيث لا نفط ولا ممرات مائية حيوية، أو قيمة عسكرية. أيضا اعتبر لبنان مزرعة سورية ومخيما كبيرا للاجئين الفلسطينيين ومركزا للرماية الإسرائيلية، وبالتالي تراجعت الأولويات بعد انفجار استهدف المارينز. وبعد عشر سنوات تقريبا انسحبت الولايات المتحدة من أفغانستان للسبب نفسه، أن قيمتها الاستراتيجية تلاشت بعد هزيمة السوفييت وتركت البلاد في فوضى عارمة أنجبت لاحقا طالبان فالقاعدة وانقلب بسببها العالم رأسا على عقب.

وليس من المنتظر من الأميركيين أن يحاربوا بعيدا عن مصالحهم الرئيسية، لكن خروجهم يؤلم أكثر من تورطهم، لأنه انسحاب بلا ترتيب، وبفراغ يملأه عادة الخصوم الذين يرون في الانسحاب نصرا، وهكذا تعقدت أوضاع لبنان، كما تدهورت أوضاع أفغانستان. أما ولش فهو بالتأكيد من القلة السياسية الأميركية العارفة بالشأن اللبناني والعربي عموما، بتفاصيله المملة، لكن المعرفة لا تعني كثيرا بدون سياسة تترجمها. فالخارجية الأميركية كانت أكثر معرفة بالشأن العراقي لكن الخارجية لعبت دورا ضئيلا في إدارة بغداد بعد السقوط بعد أن هيمن على إدارتها صقور البنتاغون الذين قدموا واحدة من أسوأ العروض السياسية في التاريخ المعاصر. وهذا قريب من الحقيقة في الإدارة الأميركية السيئة للقضية الفلسطينية على مر العقود، حيث كانت الخارجية تتهم عادة من قبل الإدارات التي تعاقبت على البيت الأبيض بأنها متعاطفة مع العرب، ولهذا ستون عاما مرت بأزمات متكررة، تعود بالمتصارعين دائما الى المربع الأول.

[email protected]