خصوبة في التناسل وعقم في الغذاء!

TT

كان المعري الفيلسوف مؤمنا بتحديد النسل. فقد أوصى بأن يُكتب على قبره بيته الشعري الشهير: «هذا جناه أبي عليَّ وما جنيتُ على أحدِ». بل ما رأى في تراب الأرض سوى رماد الكثافة البشرية: «صاحِ، خففِ الوطأ، ما أظن أديم الأرض، إلا من هذه الأجسادِ».

إذا كان الفلاسفة بطبيعتهم متشائمين، فقد كان رجال الدين متفائلين. الأديان السماوية آمنت بالوفرة البشرية. غير أن القسيس مالتوس خالف التفاؤل الروحي. فقد تنبأ منذ أواخر القرن الثامن عشر للإنسان بالكوارث، من جوع وأوبئة وحروب، إذا ما استمر البشر بالتناسل والتكاثر اعتباطا.

روّاد الرأسمالية، من ديفد هيوم وآدم سميث إلى جون ستيوارت ميل، أثبتوا خطأ مالتوس في الظن بأن العالم يزداد بشرا بأسرع ما يزداد مواردَ. كانت الرأسمالية دين الوفرة في السلع الاستهلاكية. غير أن شعوب أوروبا الغربية كفت عن التزايد منذ منتصف القرن التاسع عشر. باتت الرفاهية عندها شاغلاً لها عن غريزة البقاء.

ثبات الخصوبة الأوروبية مكَّن خبراء الاقتصاد من وضع برامج دقيقة للتنمية والنمو الاقتصادي، بحيث ازدهرت الرأسمالية محققة مكاسب ترفيهية ضخمة للطبقتين البورجوازية والوسطى. كان على ماركس وفلاسفة الاشتراكية تحقيق التوازن الإنمائي، بحيث يطال الازدهار المُعاش أيضا طبقة البروليتاريا العاملة منذ نهاية القرن التاسع عشر.

منذ منتصف القرن العشرين، عادت المسألة السكانية (الديمغرافية) لتطل برأسها القلق والمتشائم. أستطيع أن ألخص هذه الإشكالية بغوغائية الزعم بأن الناس لا يريدون أن يموتوا باكرا! حتى حروب القرن التي اختصرت مائتي مليون إنسان لم توفر الراحة من الازدحام. تعاونت الخصوبة الذكرية والأنثوية، مع تحسن الصحة الوقائية، على إنتاج مائة مليون إنسان سنويا يفيضون عن حاجة الحرب والجوع والأوبئة لاستهلاك البشر.

إذا وضعتُ الإشكالية الديمغرافية بقالب أكثر علمية وموضوعية، لقلتُ إن حل مسألة الانفجار السكاني في العالم العربي يتلخص بعاملين اثنين: إما بالحد من التناسل من خلال التوعية، وإما بمعالجة المشكلة بالتنمية.

أتمهل هنا لأنوِّه بأني أحاول اجتذاب القارئ والمعلق معا إلى مواضيع اجتماعية لم نألف معالجتها في الصحافة. لماذا؟ لأن معلقي الصحافة والسياسة يجهلون بها، ثم لأنها قنابل موقوتة مضغوطة تحت السطح الفولاذي للسلطة لا أحد يرغب في الكشف عنها. نهتم بها عرضا عندما تنفجر. ثم نعود إلى التعليق على الأحداث اليومية. لا بد للمعلق السياسي والكاتب الصحافي من الإبحار في دراسة هذه القضايا. فعليها يتوقف المستقبل العربي والمصير القومي المشترك إلى آجال منظورة أو بعيدة.

مع انفجار الأزمة الغذائية، ومع ارتفاع أسعار السلع الغذائية والتموينية ارتفاعا فاحشا، أميل إلى اعتبار تزايد الكثافة السكانية في مقدمة أسباب التفاقم الخطير للمشاكل الاجتماعية في العالم العربي، الأمر الذي يلقي بظلاله الرمادية على الاستقرار السياسي والأمن الاجتماعي.

العامل الديمغرافي شديد التعقيد. فهو يتداخل في صميم قضايا أخرى، كالتنمية والغذاء والمياه والبيئة والثقافة والتقاليد والدين، ويشكل عقبة في مكافحة الفقر والجهل والمرض. لا شك أن العالم في العقود الأخيرة سجل تراجعا في معدل الولادات إلى 3 بالمائة في عالم الفقراء. لكن الخصوبة الإسلامية والعربية ما زالت أعلى (4 بالمائة). لا أدري ما إذا كان للفياغرا علاقة بهذه الفحولة الكاذبة.

في احترام الدين للحياة الإنسانية، فالإسلام يرفض الإجهاض كناظم لتخفيض العدد وتخطيط الأسرة. المسيحية واليهودية تشاركان الإسلام في هذه الرؤية، وترفضان موانع الحمل، فيما اختلف الفقهاء العرب قديما وحديثا في قبولها. النص المقدس حضَّ على الوفرة، لأن الدين كان بحاجة إلى مزيد من المؤمنين لحمل رسالته إلى الآخرين: «وما من دابة على الأرض إلا على الله رزقها». في الحديث: «تناكحوا. تناسلوا. فإني مُباهٍ بكم الأمم يوم القيامة». لعل طلب الوفرة هو الذي حدا بالإسلام إلى القبول بتعدد الزوجات. في القرآن الكريم: «فانكحوا ما طاب لكم من نساء، مثنى وثلاث ورُباع».

الغرب الشاكي من تراجع عدد السكان جعل من تزايد السكان في عالم الفقراء مشكلة عالمية مبالغا فيها. لكن عددا من علماء الديمغرافيا والاقتصاد يعتقد أن معالجة المشكلة بالإجهاض وموانع الحمل، أو بتحديد النسل (الصين)، أو بالإكراه على التعقيم (الهند) لم تؤد إلى ضبط التزايد. هؤلاء الخبراء يرحبون بالكثافة السكانية. فهي عندهم تعني مزيدا من الأفكار والأسواق والإنتاج والاستهلاك.

مع اعتبار التنمية والنمو الاقتصادي ركيزة الرؤية الاجتماعية في الدولة الحديثة، فتزايد الكثافة السكانية يصبح همّا مقلقا للدولة. مع تسييس الدين و«أسلمة» المجتمعات العربية، تجد الدولة والنظام حرجا كبيرا في معالجة القنبلة الديمغرافية. أحسب أن الحل يتم بالمزاوجة بين العلاج بالتوعية والعلاج بالتنمية. التوعية تتطلب الارتقاء التربوي والتعليمي بالمرأة التي هي في المجتمع الأبوي والذكري الحاضنة الطبيعية للدجاج البشري. هنا لا بد من بذل جهد حكومي أكبر في إقناع المؤسسات الدينية بالمشاركة في تحرير المرأة من التقاليد.

الثقافة التقليدية الموروثة تجعل من خصوبة المرأة شرطا لزواج ناجح. الفحولة الذكرية تتباهى بالوصاية الأبوية على أسرة تغصّ بالأولاد. التوعية الرسمية لم تنجح في تبديد هذه الثقافة. الزيادة السكانية مخيفة (نصف مليون إنسان جديد سنويا في كل من المغرب والجزائر والسودان. مليون إنسان كل ثمانية أو تسعة شهور في مصر وإيران وتركيا). هذا العدد يجعل من العمل والتعليم والصحة مشاكل صعبة المعالجة. دول الخليج تزداد بمعدل 300 ألف إنسان سنويا. وهي نسبة مقبولة في مواجهة متطلبات الازدهار الاقتصادي، ولدفع خطر العمالة الآسيوية المدمرة للهوية العربية (خمسة ملايين عامل).

صعوبة التحكم بالنسل من خلال التوعية تنعكس سلبا على علاج المشكلة بالتنمية. غياب مصداقية الرقم تجعلني أشك في معدلات التنمية والنمو الاقتصادي التي تباهي بها الدول والأنظمة. دليلي هو عدم تحسن المستوى المعاش مع هذا الازدهار الاقتصادي الوهمي والرقم الكاذب. السبب هو إسقاط رأس المال البشري من الاستثمار في التنمية. أقصد عدم الاستثمار بما يكفي في التربية. الصحة. العمل. التأهيل والتدريب. الحرية. الديمقراطية.

كيف يمكن للدولة أن تضع ميزانيات وخططا إنمائية دقيقة وصحيحة في مجتمعات تزداد كثافة بشرية بشكل اعتباطي؟! لقد انهارت العلاقة بين المدينة العربية والتنمية. نعم، الهجرة إلى المدينة فرضت «حزام العفة» على الإنجاب السهل في الريف. لكن هذه الهجرة العشوائية دمرت البنى الأساسية. زنَّرَت المدينة بأحزمة بؤس بلا خدمات. خلقت أزمات بطالة ونقصا في خدمات المياه والكهرباء. كل هذه النواقص شكلت خطرا على السلام المدني والأمن الاجتماعي والاستقرار السياسي. دليلي تفاقم العنف المتسربل بلباس ديني، وتقديم الأحزاب الدينية حلولا غيبية جاهزة تتبخر مع حرارة الاختبار والتجربة، لكنها تلهب العواطف الدينية لمجتمعات مؤمنة.

الوطن العربي ثاني أكبر مساحة في العالم (أكثر من 11 مليون كيلومتر مربع. روسيا 17 مليون ك.م) لكن الحياة العربية تتركز على الشريط الساحلي وحول ضفاف الأنهار وواحات النفط. بقية المساحة صحارى وأرض زراعية تتصحر بالإهمال وسخونة البيئة. فحولة الخصوبة التناسلية تنتج خمسة ملايين طفل عربي سنويا. هؤلاء يفتحون أفواههم طلبا لغذاء بات نادرا ولو بسعر أعلى. خصوبة في التناسل وعقم في الغذاء والتغذية! الحل التوافقي متاح لدى مؤسسات ثلاث: السياسية والاجتماعية والدينية، إذا أردنا حقا الكرامة والاحترام والحرية للحياة العربية.