... وتعطلت لغة الكلام

TT

لا ريب لدى الراصد المدقق أن هناك أزمة تواصل وحوار في العالم العربي، أزمة على عدة مستويات، التيارات الفكرية تلغي بعضها، الجماعات السياسية تتبادل لغة الشطب والمحو. المجتمعات العربية، في لحظات الانكشاف الغرائزي، مثل مباريات كرة القدم، او المنافسات الجماهيرية الاخرى، تمارس الهجاء التدميري لبعضها، ويلتف ـ كما الافعى ـ على هذا كله التناطح «التيسي» لدى كثير من مثقفي العرب فيما بينهم.

كل هذا صحيح وملاحظ، في العراق ولبنان ومصر والكويت والسعودية... وغيرها.

لكن الأخطر على المستويين الفكري والثقافي في هذه الحروب الإلغائية هو الإلغاء الديني، و«خلع» المثقف المختلف من عداد الجماعة، كما كان يفعل عرب الجاهلية مع الشعراء الصعاليك، حتى قال أحد الصعاليك واصفا حاله بعد خلع قومه: وأفردت إفراد البعير المعبد!

قبل كل شيء لا بد من التوضيح أن التكفير سلوك مارسه القائمون على مؤسسات الدين، أي دين، من اجل إبقاء الترسيمة العقائدية والفكرية والاجتماعية كما هي بدون تغيير، من خلال ممارسة التبشير بهذه الترسيمة او الوصفة داخل حيز الجماعة.

وحتى نضع الأمور في سياقها الأشمل، يجب أن نتذكر أن رجال الكنيسة المسيحية في أوروبا كانوا الأبرز في استخدام هذا النوع من الأسلحة العقائدية. ومثلهم حاخامات اليهود الذين أصدروا فتوى أو بيان «الحرم» في القرن السابع عشر، للفيلسوف الهولندي اليهودي سبينوزا، وحكموا بكفره وخروجه عن حيز الجماعة لأنه تجرأ وقدم تصورا عن الوجود والطبيعة الإلهية تختلف عن تعاليم مؤسسة الكنيس اليهودي، وقالوا في نص فتواهم تلك، ويا للعجب في تكرار الصياغات رغم اختلاف الديانات! قالوا: «بقرار الملائكة وحكم القديسين نحرم ونلعن وننبذ ونصب دعاءنا على باروخ سبينوزا بموافقة الطائفة كلها. وبوجود الكتب المقدسة ذات الستمائة وثلاثة عشر ناموساً المكتوبة بها، نصب عليه اللعنة وجميع اللعنات المدونة في سفر الشريعة. وليكن ملعونا نهاراً وليلاً، وفي نومه وصبحه، ملعوناً في ذهابه وإيابه، وخروجه ودخوله، ونرجو الله أن ينزل عليه غضبه وألا يتحدث إليه أحدٌ بكلمة أو يتصل به كتابه، وألا يقدم له أحد مساعدة أو معروفاً وألا يعيش أحد معه تحت سقف واحد، وألا يقترب منه أحد على مسافة أربعة أذرع».

لا داعي للقول بأن سبينوزا صار بعد ذلك من فلاسفة أوروبا الذين قامت على أساس فلسفتهم النهضة الحديثة، كما أنه بعد هذا اللعن صار مكرما ونصب له تمثال في نفس الشارع الذي عزلته فيه طائفته.

أما الحال مع الكنيسة المسيحية الكاثوليكية فكان أشد وأمر. لم يتوقف الحال في فتاوى «الهرطقة» والتكفير، على الفلاسفة فحسب، بل تعدى إلى علماء الفلك والفيزياء، لأنهم قدموا نظريات وتصورات علمية تخالف تفسيرات رجال الدين المسيحي للفلك والطبيعة. فمنهم من حرق بالنار ومنهم من وضع على الخازوق، ومنهم من تراجع عن رأيه خوفا من هذا المصير الذي تتوعد به فتوى البابوات، وهياج من العامة. التكفير والقتل لم يتوقفا على العلماء والفلاسفة، ناهيك من أبناء الديانات الأخرى مثل اليهودية أو الإسلام في الأندلس، بل تعدى إلى أبناء المسيحية نفسها، من غير أتباع المذهب الكاثوليكي، ومن يقرأ في سير محاكم التفتيش يجد المآسي التي فعلت بفتوى رجال الكنيسة الكاثوليكية.

إذن فالتكفير، ثم القتل بناء عليه، ليس خصوصية لدين من الأديان، صحيح أنه في المسيحية المعاصرة لم تعد الأمور بهذا الشكل، وانطلق التفكير الحر من عقاله، وتصالحت الكنيسة مع حركة العلم، ولكن ذلك تم بعد مسيرة طويلة من الصراع، وتضحيات عظيمة قدمها العلماء والمفكرون على مذبح الاستقلال النقدي، مع انه ما زالت في المسيحية الغربية جيوب تكفر وتهرطق إلى يومنا المعاصر، وفي بعض الكنائس الشرقية مثل الكنيسة القبطية في مصر التي كفرت احد أبنائها المتخصصين في تاريخ ولاهوت الكنيسة المصرية، وهو الدكتور جورج بباوي بسبب اختلافات بينه وبين البابا شنودة حول طبيعة الإيمان المسيحي المصري.

أما إذا وصلنا إلى الحالة الإسلامية، فإننا سنجد تاريخا طويلا من التكفير والتكفير المضاد، بين الخصوم الفكريين، ليس وليد اليوم، بل منذ القديم، ولم يكن التكفير موجها إلى فلاسفة أو «مفكرين» بلغتنا المعاصرة، وحسب، بل إلى فقهاء خلص، فقد كفر جمع من علماء الحديث الإمام أبا حنيفة، كما هو مدون في تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، وكتاب السنة لعبد الله بن احمد بن حنبل، وغيرها من المصادر، وكفر آخرون في طول التاريخ الإسلامي من فقهاء وشعراء ومتكلمين وفلاسفة. ولولا ضيق المجال لسردنا قائمة طويلة بالمكفرين أو المزندقين، ومنهم من قتل بفعل هذه الفتوى، ومنهم من توارى، ومنهم من تراجع خوفا واستتاب على يد خصومهم وأتباعهم من الرعاع كما حصل مع العالم الحنبلي الكبير ابو الوفاء بن عقيل، واستمر الأمر إلى عهودنا القريبة.

والعجيب أن سلاح التكفير أشهر حتى داخل المدرسة الواحدة، فلما أجاز الشيخ إبراهيم بن عجلان، أحد علماء الدعوة السلفية في الجزيرة العربية ـ فترة الدولة الثانية ـ للإمام عبد الله بن فيصل أن يستعين بالدولة العثمانية في صراعه مع أخيه للإمام سعود بن فيصل، أصدر الشيخ حمد عتيق رسالة حرم فيها الاستعانة بالدولة العثمانية الشركية وتجاوز ذلك إلى تكفير الشيخ إبراهيم بن عجلان نفسه! الأمر الذي جعل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، وهو كبير العلماء وقتها، يستنكر فتوى الشيخ ابن عتيق، رغم موافقته له في أصل فتواه.

وأما تكفير المصلحين والمفكرين في الوقت المعاصر، فقصة طويلة، خصوصا في مصر، فقد كفر بعض علماء الأزهر الشيخ المجدد محمد عبده، وكادوا أن يحرموه شهادته من الأزهر لولا وقفة بعض رجال الأزهر العقلاء الذين يعرفون فقه وقدر الشيخ عبده، وكفر طه حسين وخالد محمد خالد، ومحمد احمد خلف الله، ونجيب محفوظ، ونصر ابو زيد، بل إن الذي تبنى حملة التكفير لأبي زيد، وهو الشيخ عبد الصبور شاهين، هو نفسه تعرض للاستتابة من قبل شيخ آخر هو يوسف البدري، بعدما اصدر شاهين كتابه عن حقيقة آدم والبشر...!

هذا التشويه الديني تم في أكثر من مكان وزمان ضد كثير من إصلاحيي الأمة، ونعرف كيف تعرض الشيخ الإصلاحي والمؤرخ الكويتي الشيخ عبد العزيز الرشيد (توفي 1938) إلى حملات المتعصبين بسبب دعوته للتجديد الديني. وفي السعودية هوجم وشوه، دينيا، العلامة الراحل حمد الجاسر بسبب قوله عن الزعيم الهندي نهرو لما زار السعودية: «مرحبا برسول السلام». وصولا إلى مثقفين أمثال تركي الحمد ومنصور النقيدان وعبد الله بن بجاد ويوسف أبالخيل.

المثقف ينطلق من حقه الطبيعي في البحث والتفكير، ما دام أنه لم يجترح القدح الموصوف قانونا على شخص محدد أو مؤسسة اعتبارية، له الحق بإنشاء الحديث في مجالات العلم والفكر والشأن العام، خصوصا أننا نرى أغلب مطلقي بيانات التكفير او تلاميذهم لا يوفرون مجالا ولا شأنا عاما إلا وتحدثوا أو كتبوا فيه، فلا فضل لأحد على احد هنا.

التكفير لا يكسب على المدى الطويل، ربما يخيف، ويعرقل الانفتاح والتطور الطبيعي ـ ربما ـ ولكنه على المدى المتوسط والطويل يصبح مجرد فقرة تاريخية تكتب كخلفية ثقافية واجتماعية تبين طبيعة التفاعلات التي حفت بمسيرة التغيير، وحسب... هذا هو درس التاريخ الخالد الذي يغفل عنه في ضجيج اللحظة العابرة.

[email protected]