هل المحكمة الدستورية ضد الديمقراطية الحديثة في تركيا؟

TT

قررت المحكمة الدستورية في تركيا الاستماع إلى قضية حظر حزب العدالة والتنمية، الذي يتهمه الادعاء العام باستخدام أجندة خفية من أجل بناء دولة إسلامية. ويذكر الادعاء العام، في معرض استعراض حججه، الرفع الأخير للحظر على ارتداء الحجاب في الجامعات كمثال على محاولة الحزب إسقاط النظام العلماني.

وفي الوقت الذي ننتظر فيه قرار المحكمة، تنتشر الفوضي في الجامعات، وسط إصرار بعض رؤساء الجامعات على عدم السماح للطالبات المحجبات بدخول قاعات المحاضرات، حتى لو أدى بهم ذلك إلى السجن. فهم يرون هؤلاء الفتيات، اللاتي لا يطلبن إلا التعليم، بمثابة تهديد للنظام العلماني.

ويرى آخرون أن القانون الجديد حول رفع الحظر على ارتداء الحجاب يتفق تماماً مع المادة 26 من إعلان الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، والتي تعد بمثابة الوثيقة العظمى «الماغنا كارتا» في العصر الحديث. ويطالب إعلان حقوق الإنسان ليس فقط بحرية الدين وحرية التعبير، بل بالحق في التعليم على حد سواء.

فما الذي يكمن بحق وراء الجدل الدائر حول الحجاب والقضية المرفوعة أمام المحكمة الدستورية؟

تكمن الإجابة على هذا السؤال في أسس مشروع الحداثة التركي. هذا المشروع صممته الصفوة ذات التوجهات الأوروبية في مركز السلطة التركية في أوائل القرن العشرين. وإجمالاً، حقق هذا المشروع نجاحاً. فقد سهل التقدم المادي وشكل دولة موحدة عن طريق تحقيق تجانس في المجتمع، وبذلك استطاع أن يخلق هوية تركية مميزة.

واستلزم مشروع تحديث تركيا فهماً حقيقياً ومبنياً على أسس علمية للعالم، ومن ثم فقد شجع نموذجاً للمجتمع الغربي غير المتدين باعتباره شرطاً للتقدم.

إلا أن هذا الاتجاه قد تسبب في انقسام الدولة إلى شعب وصفوة، ومحيط ومركز. وظل العامة على تدينهم في حين اتخذت النخبة اتجاهاً علمانياً. أما الصفوة ذات التوجهات الأوروبية فقد تبنت أسلوب حياة متناسب مع توجهاتها. وبقي الشعب الذي ينتمي معظمه إلى هضبة الأناضول بعيداً عن التوجهات الأوروبية.

ونتيجة لهذه الانقسامات التي استمرت لفترة طويلة، أنشأ المحيط مجموعة موازية خاصة به من النخب والمشروعات والمؤسسات والإعلام طوال فترة وجود تركيا الحديثة.

ولم يكن الأمر بالمفاجأة. فحيث أن تركيا دولة ديمقراطية على الرغم من التدخلات العسكرية المتكررة، فإن الأغلبية في المحيط، بقيادة حزب العدالة والتنمية (الذي حصل على ولاء الكثيرين بسبب حساسيته الدينية)، استطاعت أخيراً أن تصل للسلطة في عام 2002. ولا غرو أن يتسبب ذلك في رد فعل من جانب النخب المركزية، التي تعاني من فقدها للسلطة.

ولم تنجح حكومة حزب العدالة والتنمية من خلال تبنيها لقضية التزام تركيا بأن تصبح عضواً كاملاً في الاتحاد الأوروبي، أو من خلال اعتناقها مبادىء الاقتصاد الحر، ناهيك عن تأكيدات رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان الشخصية، في إقناع المتشككين بأن ما يجري ليس سيطرة إسلامية مناهضة للحداثة، بل تحقيق للديمقراطية، التي هي جزء لا يتجزأ من طريق تركيا الفريد نحو الحداثة.

وفي هذا السياق أصبح الحجاب في الحقيقة رمزاً، رمزاً للخوف تستخدمه النخب، التي أجبرت على ترك السلطة، من أجل حشد الدعم ضد هؤلاء الموجودين في المحيط، والذين يقتحمون كل مجالات المجتمع ليغيروا الوضع القائم ويدمروا الجدران غير المرئية.

وتساوي النخبة بين إلغاء الحظر على الحجاب وإبعادها عن السلطة، معتبرة نفسها الحارس الأمين على مشروع الحداثة التركي.

والغريب في الأمر هو أن النخب المركزية تبدو وكأنها لا ترى المفارقة في حقيقة كونها تدافع عن أمور تتعارض بشكل أساسي مع جوهر فكرة الحداثة. وكما هو معروف، فإن مشروع الحداثة لا ينجح إلا بتبني كل أطراف المجتمع له. والجامعات هي هيكل الحداثة. ومن هذا المنظور، يتضح أنه من غير المنطقي أن نفتح أبواب الجامعات أمام البعض ونغلقها أمام آخرين، على أساس حكم استباقي بأن العقل الحديث لا يمكن تغطيته بحجاب.

وتكشف نتائج استطلاع رأي أُجري أخيراً في تسع محافظات طردت فيها نساء من الجامعات بسبب حظر الحجاب أن 99% منهن، واللاتي كان من المفترض أن يكن معاديات للقيم الحديثة السائدة في المجتمع، يعتقدن أن المرأة يجب أن تكون قادرة على اختيار زوجها.

كما تعتقد 86% منهن أن المرأة يجب أن تعمل وأن تكون مستقلة اقتصادياً. ويرى معظمهن أن طريقة اختيار الزي يجب ألا تكون عاملأ حاسماً عند اختيار الأصدقاء.

وبمعنى آخر، تظهر هذه النتائج أن هؤلاء النساء يمتلكن قيماً حديثة. وبوصفي أكاديمية أقوم بالتدريس منذ ما قبل عام 1997، حينما كانت الطالبات المحجبات قادرات على الذهاب بانتظام إلى الجامعات، فإن ملاحظتي الشخصية تتماشى مع هذه النتائج. فالطالبات المحجبات اللاتي جئن إلى الجامعة من عائلات محافظة بوصفهن أقل انخراطاً اجتماعياً قد تخرجن من الجامعة وهن يحملن قيماً عامة. وبالإضافة إلى حساسيتهم الدينية، تبنت هؤلاء الطالبات انتماءات قوية مع النظام العلماني، وأصبحن يمتلكن «عقلية عصرية» لسنوات. ويتفق مع هذه النتائج استطلاع رأي أخير أجراه معهد جالوب وشمل دولاً إسلامية. وقد كشف هذا الاستطلاع أن تركيا من بين الدول القليلة التي ترفض فيها الأغلبية تطبيق الشريعة الإسلامية في نظام الحكم. ويعد هذا الاستطلاع بمثابة دليل على أن اختيار البعض لارتداء الحجاب لا يمثل تحدياً سياسياً للنظام، بل مجرد التزام بمعتقدات دينية.

وفي ضوء هذه البيانات، فإن تأييد حظر الحجاب بدافع حماية الحداثة هو موضوع له جوانب هزلية. فالادعاء بأن النظام العلماني يواجه تحدياً يتمثل في القوة الشريرة للطالبات اللاتي يرتدين الحجاب يناقض حقيقة السماح للملتزمين من الرجال المسلمين بالانتظام في الجامعة، بل والعمل في مكاتب حكومية بدون أي قيود.

وليس هناك حاجة إلى القول إن الأمر يشكل معضلة، سواء في ما يتعلق بالهدف الحديث للمساواة بين الجنسين، أو بالنسبة إلى الثبات المنطقي القديم الواضح.

وتركيا في وسط عملية تحول إلى بيئة سياسية جديدة وأكثر اتساعاً ومشاركة تعتمد على الديمقراطية والعلمانية.

إن استيعاب هذا التحول، والذي يعني قبول الطبيعة المختلفة لعالمنا، والذي تسيطر عليه العولمة، بدلاً من الانسجام الثقافي الذي يمكن تصوره في ضوء الأفكار اليقينية عن الحداثة، سوف يكون مؤلماً كما أنه سيستغرق وقتاً. ولكنه حتماً سوف يحدث.

* أستاذ مساعد في جامعة أيدين باسطنبول ورئيسة مركز أبحاث تركيا ونائبة رئيس قسم العلاقات العامة في حزب العدالة

والتنمية الحاكم

* خدمة «غلوبال فيوبوينت»

خاص بـ «الشرق الأوسط»