أميركا قد تنسحب تدريجيا من العراق ولكنها لن تسلّمه والشرق الأوسط لإيران

TT

بعد خمس سنوات من احتلال العراق وسقوط نظام صدام حسين، تبارت وسائل الاعلام في تقييم هذه «التجربة» الأميركية في «محاربة الإرهاب» و«ادخال الديموقراطية الى الشرق الأوسط». فبعضها اصدر حكمه بفشل هذه التجربة، والبعض الآخر اعتبر انها بدأت تعطي ثمارا، وثالثة اعتبرت انها لا تزال متأرجحة بين النجاح والفشل. وفي الحقيقة، ان المشكلة العراقية ليست محصورة باحتلال اجنبي تجابهه مقاومة وطنية فقط، بل انها حلقة في سلسلة مترابطة من المشاكل، تمتد من باكستان شرقا، الى لبنان وفلسطين غربا، ومن تركيا وسورية شمالا الى الخليج واليمن جنوبا. ولا تقتصر على محاربة الارهاب ونشر الديموقراطية فقط، بل تشمل قضية السلام في الشرق الأوسط، ومحوره النزاع العربي ـ الاسرائيلي، كما تشمل انتشار أسلحة الدمار الشامل، وأيضا وخصوصا النفط، الذي يشكل مصلحة استراتيجية عالمية.

الرأي العام الأميركي ـ وهذا أمر طبيعي ـ «مل» من هذه الحرب الساخنة ـ الباردة التي تخوضها دولته في العراق، أو في افغانستان، والتي كلفت حتى الآن مئات المليارات وآلاف القتلى والجرحى. وفي بلد كالولايات المتحدة لا تستطيع الحكومة أن تصم أذنيها أو تدير ظهرها للرأي العام. وشعارات المرشحين للرئاسة الأميركية خير دليل. ولكن البيت الأبيض والبنتاغون يعرفان ان الانسحاب من العراق، قبل قيام حكم وطني قادر على توفير الوحدة الوطنية والأمن والاستقرار، ليس كالانسحاب من فيتنام، بل هو بداية حرب أهلية مفتوحة في العراق مرشحة الى مد ألسنة لهيبها الى منطقة الشرق الأوسط برمتها. وأخطر من الانسحاب هو تسليم الولايات المتحدة العراق والشرق الأوسط لايران وللقوى المعلنة العداء للغرب، والرافضة لأي مشروع سلام بين العرب واسرائيل، فذلك من شأنه ان يفجر صراعا مكشوفا، كي لا نقول حربا بين محورين اسلاميين، احدهما يدور حول ايران وسورية والقوى السياسية المتطرفة الرافضة، والثاني حول مصر والأردن ودول الخليج على الأقل.

الرئيس الأميركي، الذي لم يبق من ولايته أكثر من ثمانية أشهر، أكد في خطابه الأخير انه لن يسحب القوات الأميركية من العراق إلا تدريجيا، ووفقا لتحسن الاوضاع فيه. وحتى لو فاز أحد مرشحي الحزب الديموقراطي في الانتخابات الرئاسية، فإنه لن يخرج عن هذه السياسة، وان ادخل اليها عناصر جديدة، كفتح حوار مع ايران وسورية، أو كتقليص عدد القوات أو التوصل الى نوع من الوفاق بين السنة والشيعة، أما ان «تلوي الولايات المتحدة ذنبها» وتجمع حوائجها وترحل من العراق والشرق الأوسط، مسلمة اياه لأحمدي نجاد وبن لادن والطالبان والجماعات الاسلامية الراديكالية، فذلك لا يتعدى الأمنية والحلم. فالمسألة ليست ـ كما يصورها أو يتصورها البعض ـ مسألة «نضال ضد الامبريالية والصهيونية والاستكبار» أو «جهاد» ديني بل مسألة يتعلق بها أمن وسلامة واقتصاد الغرب الاميركي ـ الاوروبي ودول كبرى كالهند وروسيا والصين، بل العالم أجمع. وفي مسألة بهذا الحجم والخطورة ليسمح لنا الذين أعلنوا الحرب والجهاد على العالم وقرروا «دحر الولايات المتحدة في العراق ولبنان»، و«محو اسرائيل من الوجود»، بأن نطلب منهم التروي واختيار طريقة أخرى للدفاع عن مصلحة العرب والمسلمين، أكثر واقعية وأجدى أسلوبا واقل استخفافا بعقول الناس والمنطق البسيط.

لسوء الحظ لم تسهل اسرائيل على الادارة الاميركية والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، حلحلة هذه الأزمة الكبيرة بالتوصل الى اتفاق مع السلطة الفلسطينية. كما لم تسهل ايران، رغم الهدية الثمينة التي قدمتها واشنطن لها بالاطاحة بحكم صدام وحكم الطالبان في أفغانستان ـ عليها عملية بناء «عراق ديموقراطي»، على غرار ما تحقق في اليابان والمانيا، منذ ستين عاما. بل العكس هو ما حصل. فإيران واسرائيل رغم الحرب شبه المعلنة بينهما، تشتركان في تغطيس الولايات المتحدة في العراق وفلسطين ولبنان. وهذا ما باتت واشنطن متأكدة منه بالنسبة للدور الايراني في العراق، ولا تجرؤ على الاعتراف بدور أو مسؤولية اسرائيل فيه. وحتى الآن لم تبت الولايات المتحدة بتا نهائيا وحاسما، في أولوية حل النزاع الفلسطيني ـ الاسرائيلي على حل مشكلتها في العراق. وان كان هناك أكثر من مؤشر على اقتناعها بذلك.

ان الرئيس بوش وقسما من ادارته وحزبه، سيبذلون جهدهم لانجاح المحادثات الاسرائيلية ـ الفلسطينية، قبل نهاية هذه السنة، ولكن لا شيء في مواقف اسرائيل الأخيرة يدل على انها ستسهل عليهم تحقيق هذا الهدف. ولا شيء يدل على انها لن تماطل أربع سنوات أخرى، مع الرئيس الأميركي القادم، كما فعلت مع الرئيسين الأميركيين الأخيرين، بوش وكلينتون، رغم تظاهرها بالرغبة في السلام. ولكن هل يتحمل لبنان والعراق والشعب الفلسطيني، بل الشرق الأوسط والعالم، هذه الأزمة، وهذه الحرب الباردة ـ الساخنة، التي تعصف رياحها من باكستان الى المغرب، وتهدد مصالح الدول الغربية.. أربع سنوات أخرى؟!

ان الاستراتيجيين الاميركيين يدركون ان هذه الحرب التي يخوضونها ضد الارهاب، مبدئيا، وضد المشاريع الايرانية النووية والثورية والتوسعية، فعليا، ليست حربا كلاسيكية، تخاض بين جيوش وتحسم بنصر عسكري على الأرض. بل هي حرب ضد عدو مجهول وآخر يعمل في الظل. واذا اختارت الادارة الاميركية بعد صدمة 11 سبتمبر، ان يكون الرد عسكريا في العراق وافغانستان، فكل شيء يدل على ان اللجوء الى الخيار العسكري، مع ايران وسورية، اليوم، وفي الظروف الموضوعية الراهنة، بات أصعب وضعيف الاحتمال، الا في أقصى درجات الحاجة. وايران وسورية تدركان ذلك، ولن تدفعا واشنطن الى حافة هذا الخيار. الا ان اسرائيل كانت دائما صاحبة المصلحة الأولى في حفر الهوة بين العالمين العربي والاسلامي، والغرب الاميركي ـ الاوروبي ولن تتردد في تأزيم الوضع في العراق وفلسطين ولبنان، كي تحقق هذا الهدف.

هل يكون انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان، هو النافذة الصغيرة التي يمكن ان تحلحل هذه الأوضاع المتأزمة؟ أم يكون التفاهم، ولا نقول الاتفاق الكامل، بين الاسرائيليين والسلطة الفلسطينية هو الباب الذي يدخل السلام الى هذه المنطقة من العالم؟ أم يكون استقرار الأمور في عراق ديموقراطي موحد، هو الباب الآخر للسلام؟ لا شك في ان العالم بأسره، وليست أكثرية الدول العربية فقط، مقتنع بأن هذه هي مفاتيح أبواب الخلاص. ولكن من يقنع ايران بتحجيم طموحاتها ومشاريع هيمنتها؟ من يقنع سورية بأن لبنان دولة مستقلة؟ من يقنع اسرائيل بأن السلام افضل من السلاح؟ وأن الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، أفضل من الاحتلال والقمع؟

من يقنع الطالبان والقاعدة وحزب الله والجماعات «الجهادية»، بأن العالم عام 2008، يختلف كثيراً كثيراً عن أيام «الفتح»؟ وأن الغرب «الامبريالي الصليبي الاستكباري»، كما يسمونه، الذي يملك الاقمار الصناعية والقنابل الهيدروجينية والصواريخ الموجهة، ويوفر للبشرية كل وسائل الاتصال والتواصل والنقل وتحسين نوعية الحياة، ومقاومة الاوبئة وحماية البيئة، لا يمكن الانتقام منه أو التغلب عليه، أو «هديه الى الحق»، بالسيارات المفخخة والعمليات الارهابية، بل بالتفوق عليه علميا وحضاريا وانسانيا.