المنظور اليهودي

TT

النكتة اليهودية باب رئيسي في عالم الفكاهة والسخرية. معظم الكوميديين في الغرب الآن من اليهود. وكتبت أبحاث كثيرة عما يعرف بظاهرة النكتة اليهودية، وكيف أنها ساعدت اليهود على تحمل الاضطهاد والارهاق. مما يلاحظ فيها انها كثيرا ما تدور حول التقتير والكسب وتحمل الظلم. ولكنني لاحظت فيها ايضا هذا الفهم الديالكتيكي للحياة ووضع كل شيء في إطار التدرج المرحلي والتسلسل المنطقي.

خير مثال على ما اقول حكاية الرجلين اليهوديين في قطار. سأل أحدهما الآخر عن الوقت. كم الساعة؟ لم يجبه الآخر. فكرر عليه السؤال مرتين وثلاث مرات من دون جدوى. اخيرا ضاق به فقال له لماذا لا تجبيني وتقول لي كم الوقت؟ أجابه الرجل الآخر فقال: ولماذا أجيبك على سؤالك؟ إذا أجبتك فلربما تسألني هل ساعتي مضبوطة؟ واذا قلت لك انها مضبوطة جيدا فستسألني من أين اشتريتها؟ وما هي ماركتها. وندخل في حديث طويل عن الساعات. ويتشعب الكلام فتكتشف انني اعيش في منطقتك. فتدعوني لتناول الشاي في بيتك. ألبي الدعوة ثم يقتضي علي ان أرد عليها بمثلها فأدعوك لزيارتي. تأتي ومعك ابنك. وانا عندي ابنة جميلة. يتعرف ابنك عليها ويحصل بينهما حب وغرام. ويقرران الزواج. وأنا كيف تسول لي نفسي أن أكون السبب في زواج ابنتي من شاب لا يملك والده من المال ما يشتري به ساعة يضعها على يده؟

تعبر هذه النكتة اليهودية خير تعبير عن غريزة اليهود في وضع كل شيء في منظوره المتطور، وملاحظة دوران عجلة التاريخ وتسلسل الأحداث. وهذا هو الفارق الكبير بين نظرتنا القصيرة الأمد المحصورة في منظور الحدث اليومي والآني، والنظرة الاسرائيلية القائمة على المدى البعيد والتطور العضوي الحثيث للحياة والأحداث. ما علينا غير ان نتذكر كيف توصلوا من مستوطنات قروية صغيرة الى الاستيلاء على فلسطين، واقامة دولة عاتية ضاربة. وكان واحد من ابنائها ينصحنا ويوجه انظارنا الى المنطق الديالكتيكي للحياة. وكان هذا رئيسها شمعون بيريز. نصح الفلسطينيين على هامش اتفاقية اوسلو فقال افعلوا ما فعلنا نحن. حققنا اقامة دولتنا خطوة خطوة. احذوا حذونا. ولكن زعيما عربيا آخر سبقه الى ذلك عندما نادى الحبيب بورقيبة باتباع سياسة «خذ وطالب». سياسة المرحلية. شتمناه وخوناه واعتبرناه عميلا من عملاء الاستعمار. سأل ابو لمعة زميله الاذاعي في صوت العرب: يسمون بورقيبة ده، بورقيبة ليه؟ اجابه قائلا علشان رقبته طويلة. قال لا يا اخويه. قال علشان رقبته غليظة. قال لا يا اخويه. قال علشان رقبته قصيرة. قال لا يا اخويه. قال: «امال يسموه بورقيبه ليه؟»، قال «علشان رقبته بيد الاستعمار يا ابني»!

فكاهة وفكاهة، سخرية وسخرية. ولكل ايديولوجيتها وخلفيتها.