في الخليج.. قبل أن نكسب العمارات ونخسر الإمارات

TT

أخيراً سمعت الأجراس التي ظلت تدق طوال العقدين الأخيرين، محذرة من تداعيات الخلل في التركيبة السكانية بمنطقة الخليج. وكان انعقاد ملتقى الهوية الوطنية قبل أيام في أبوظبي أهم استجابة لكل التحذيرات، حيث شهد الملتقى خلال ثلاثة أيام مناقشات صريحة وعميقة للأزمة، التي انضم قائد شرطة دبي، الفريق ضاحي خلفان، إلى المحذرين من تفاقمها. وصاغ تحذيره في عبارة جامعة لاذعة، قال فيها: أخشى أننا نبني العمارات ونفقد الإمارات. وكان اعتبار السنة الحالية عام الهوية الوطنية، كما قال الشيخ خليفة بن زايد رئيس دولة الإمارات، إعلاناً رسمياً عن القلق الخليجي من تردي الأوضاع السكانية، على نحو حوَّلَ المواطنين إلى أقلية، بسبب التدفق الكبير للعمالة الأجنبية على دول المنطقة، الأمر الذي يُخشَى معه أن تتحول بعض دول الخليج إلى نموذج مشابه لسنغافورة التي كان سكانها الأصليون من الملاويين، ولكن تدفق العمالة الصينية بكثافة أحدث انقلاباً في التركيبة السكانية بالجزيرة، حيث حول الملاويون إلى أقلية أصبحت بمضي الوقت تحتل المرتبة الثانية سياسياً واقتصادياً وثقافياً، في حين غدا الصينيون هم حكام الجزيرة وأهل القرار فيها.

المشهد في دولة الإمارات العربية يجسد الأزمة، فقد كان عدد سكانها طبقاً لتعداد عام 2001 حوالي 3.5 مليون نسمة، نسبة المواطنين بينهم في حدود 20% وهؤلاء لا تتجاوز مساهمتهم في قوة العمل 8.7%، وهو ما يعني أن 80% من المقيمين ليسوا من أبناء البلد وأن حوالي 91% في قوة العمل وافدة من الخارج. هذا الخلل الذي نبه عدد من المثقفين إلى خطورته وقتذاك لم يعالج، ولكنه ازداد بمعدل ينذر بالخطر، ذلك أن عدد سكان الإمارات نهاية عام 2007 تجاوز الضعف، بحيث وصل إلى ثمانية ملايين نسمة في خمس سنوات. وترتب على ذلك أن انخفضت نسبة المواطنين إلى 10% فقط من بين جملة السكان، أما نسبتهم في قوة العمل منهم فلم تزد على 5%، وبالتالي، فإن عدد المواطنين الذي ظل في حدود 800 ألف نسمة أصبح يمثل نصف عدد الجالية الهندية الذي وصل عددها إلى 1.5 مليون نسمة، كما ذكرت نشرة «الإيكونومسيت انتجلنس» (نوفمبر ـ تشرين الثاني 2007)

وإذا كانت نسبة الخلل في دولة الإمارات أوضح ما تكون في إمارة دبي إلا أن أبوظبي أصبحت تنافسها على ذلك الصعيد، ذلك أنها تخطط لزيادة سكانها من 1.6 مليون في الوقت الراهن إلى 3.1 مليون تبعاً لخطتها المساة «رؤية أبوظبي لعام 2030». ونشرت الصحف الخليجية تصريحاً لأحد مسؤولي الإمارات، قال فيه إن ثمة تفكيراً في استجلاب مليون صيني لموازنة الحضور الهندي الطاغي في البلد، وهو ما وصفه أحد الباحثين بأنه ليس حلا للمشكلة، وإنما هو كالمستجير من الرمضاء بالنار.

الدكتور الكواري، الباحث القطري المعروف، أحد المثقفين الخليجيين الذين ظلوا طوال السنوات التي خلت يحذرون من مخاطر الخلل السكاني في دول المنطقة، وله دراسة أخيرة جددت التحذير ذاته. واعتبر فيها أن الخلل المذكور يشكل اعتداءً على حقوق المواطن في كل بلد، «إذ من حق المواطنين في وطنهم أن يكون لهم دورٌ، وأن يكونوا هم التيار الرئيس في المجتمع، وأن تكون هويتهم هي الهوية الجامعة، ولغتهم هي اللغة السائدة، ومصالحهم المشروعة عبر الأجيال وحماية مصير مجتمعهم من التفكك والنكوص هي محط الخيارات والموجه للقرارات العامة. وعلى رأسها السياسة السكانية».

في دراسته أبدي الدكتور الكواري قلقاً خاصاً على قطر، إذ اعتبر أن مؤشرات الخلل هناك «مخيفة» ليس فقط بسبب الخلل في التركيبة السكانية، وإنما أيضاً نتيجة للسياسات التي سمحت للأجانب بامتلاك العقارات والقيام بالاستثمار العقاري ووافقت على منح إقامات مفتوحة لكل من يملك شقة سكنية في المناطق المخصصة لشراء غير القطريين ومن هذه المناطق مدينة «الوسيل» التي صممت لإسكان 200 ألف نسمة؛ معظمهم إن لم يكن كلهم من غير القطريين، وترتب على ذلك أن شهدت تلك المنطقة نشاطاً عقارياً هائلاً، تسبب في إزالة تجمعات سكانية جديدة أربكت إزالتها الفجائية حياة المواطنين، حتى أطلقت إذاعة لندن على العملية «تسونامي» تشبيهاً لها بآثار الإعصار الكبير والمدمر، هذا إلى جانب ما أدت إليه هذه العملية من استقدام عمالة إضافية كثيفة.

في رصد تأثير هذه السياسة على الأوضاع السكانية في الإمارة، قال الباحث إن سكان قطر كان عددهم قد استقر في عقد التسعينات من القرن الماضي، مما أدى إلى ارتفاع نسبتهم من 28% عام 1993 إلى 31.5% عام 2001. ولكن هذه الصورة تغيرت عام 2004، إذ زاد حجم السكان من 700 ألف عام 2004 إلى 1.5 مليون عام 2008. وحسب التصريحات الرسمية يُنتظرُ أن يرتفع الرقم عام 2012 إلى 2.3 مليون نسمة.

نتيجة لهذه التحولات، فإن نسبة المواطنين بين إجمالي السكان تدنت من حوالي 29% عام 2004 إلى 16% فقط عام 2008. أما مساهمة القطريين في قوة العمل، فربما تدنت إلى 7% فقط مطلع عام 2008، بعد أن كانت قرابة 15% وهذا الخلل مرشح للتفاقم لأن الصحف القطرية نشرت تصريحات لمسؤولين تحدثوا عن مخطط لبناء 600 برج ينتظر بناؤها خلال السنوات القليلة القادمة. وهذه الأبراج الشاهقة مرشحة لأن تصبح بمثابة مستوطنات للأجانب جاثمة على أرض قطر.

الخلل طرق أبواب البحرين أيضاً التي فتحت الباب على مصراعيه للتوسع العقاري على النمط الحاصل في الإمارات وقطر، حيث قامت الحكومة ببيع الأراضي وتيسير إقامة المدن والمناطق السكنية الجديدة بما استصحبه ذلك من تسهيلات للإقامة الدائمة واستقدام العمالة الوافدة بشكل كثيف غير مسبوق في بلد يعاني من بطالة مزمنة وأزمة إسكان يشكو منها المواطنون.

لقد نشرت الصحف البحرينية في 28/2/2008 أن سكان البحرين زادوا بنسبة 42% خلال عام واحد. فقد كان عددهم 742 ألفا عام 2006، ووصل هذا العدد إلى 1.5 مليون عام 2007. نتيجة لتضاعف عدد الوافدين، الذين زاد عددهم من 283 ألفاً إلى 517 ألفاً في تلك الفترة وبذلك تدنت نسبة المواطنين في إجمالي السكان من الثلثين إلى النصف. وفي قوة العمل تدنت مساهمة البحرينيين من حوالي 35% إلى 15% فقط عام 2007.

ومن الملاحظات المهمة التي أبداها الدكتور الكواري في دراسته أن تفاقم الخلل السكاني حدث بشكل مفاجئ في دول تمتلك فوائد نفطية مثل قطر وإمارة أبوظبي ودول أخرى ليس لديها صادرات معتبرة من النفط الخام مثل البحرين وبقية الإمارات. وهو ما يدل على وجود إستراتيجية واحدة غير معنية بقضية الخلل السكاني ولا باعتبارات التنمية المستدامة، ثم تطبيقها بشكل مدروس في الدول الثلاث. ولا يستبعد أن يكون ذلك قد تحقق بناء على استشارات وخطط وضعتها شركات ومعاهد أجنبية نظرت إلى هذه البلاد كمشروعات تجارية، وليست دولاً وطنية.

منذ السبعينات ودراسة تأثير العمالة الأجنبية على التركيبة السكانية في منطقة الخليج محل اهتمام من جانب الباحثين العرب والأجانب، وموضوع مناقشة من جانب مراكز الدراسات المختلفة العربية والخليجية إضافة إلى أنها نوقشت في عدة رسائل للماجستير والدكتوراه في جامعة الإمارات ومعهد الدراسات العربية، وهو ما يعني أن مرحلة تشخيص المشكلة تم استيفاؤها، وأن الجهد المطلوب للعلاج أصبح معلقاً على القرار السياسي الذي يتم التوافق عليه في مجلس التعاون الخليجي، وذلك الذي يصدر على المستوى المحلي في داخل كل قطر خليجي. وأرجو أن يكون حديث الشيخ خليفة بن زايد حاكم دولة الإمارات عن عام الهوية الوطنية، والملتقى الذي عقد في أبوظبي لمناقشة الموضوع، والذي حضره عدد غير قليل من المسؤولين في دولة الإمارات بمثابة مقدمة للتحرك الجاد في التعامل مع القضية واحتواء آثارها. ذلك أننا صرفنا وقتاً طويلاً في الحديث عن المشكلة وتحريرها، وآن الأوان للانتقال إلى طور العلاج، قبل أن تتفاقم بحيث يستعصي حلها، أو أن يصبح الحل بتكلفة تفوق قدرة الأنظمة الخليجية على الاحتمال.