المعنى الاستراتيجي لنفط مرتفع الثمن؟!

TT

أكتب هذا المقال، بعد أن جاءني الخبر على تليفوني الجوال أن سعر برميل النفط قد بلغ 116 دولارا؛ وهو ثمن ينهك الأنفاس بعد سنوات من التصاعد المستمر. فحينما كان العام هو 1999 كان سعر البرميل 16 دولارا فقط لا غير، وأيامها كتب كثيرون عن عصر البترول الرخيص، ولكن لم يمض وقت طويل حتى جاء عام 2007 فعبر السعر إلى 100 دولار السحرية بعد تساؤلات عدة عما إذا كان ذلك ممكنا. والآن فإن السقوف السعرية ارتفعت بعد أن زادت الأسعار بنسبة 18% منذ بداية العام، وبلغت 125% منذ بدايات عام 2007، وقبل أن تنتهي هذه الفقرة كان سعر البرميل قد زاد دولارا آخر، وأصبح التراكم المالي للدول المنتجة يماثل تلك التي جرى الحديث عنها في الأساطير القديمة عن بلاد صنعت من الماس واللؤلؤة والمرجان.

وبالطبع فإن الاقتصاديين لديهم شكوك قوية حول كل هذه الأسعار والأرقام؛ فهي أسعار مثالية لبرميل تخيلي من النفط بينما الواقع يشير إلى حقائق أكثر تعقيدا حول نوعية البترول، يهبط بالأسعار إلى مستويات لا يقول بها الرقم الشائع الذي تداوله التليفونات الجوالة. وهذه الأسعار ـ من ناحية أخرى ـ تعويض من الطبيعة عن فترات سابقة هبطت فيها الأسعار إلى مستويات متدنية زاد فيها عجز البلاد المنتجة، وهي التي لا يوجد في جعبتها من سلع وخدمات الكثير بعد النفط. ومن ناحية ثالثة فإن الحسابات الاقتصادية الدقيقة لمعدلات التضخم وارتفاع أسعار السلع الأخرى الغذائية والصناعية تجعل السعر «الحقيقي» للنفط لا يفارق كثيرا الثمن الذي كان عليه الحال منذ سنوات بعيدة.

وكل ذلك معقول ومقبول وفق الحسابات الاقتصادية، ولكن الحسابات السياسية والاستراتيجية لها قواعد أخرى لا يدخل فيها معدلات التضخم، وإنما توازنات الدول وحساباتها الجيو سياسية. وبصراحة فإن هناك الكثير مما يقلق في هذا الارتفاع الكبير في الأسعار، بغض النظر عن رأي المتخصصين في الاقتصاد والذين كثيرا ما يطرحون أن الأسعار الحالية ناجمة عن الزيادة فى الطلب القادم من الهند والصين. والمشكلة في ذلك أن الزيادة في الطلب كانت شائعة خلال عقد التسعينيات مع زيادة النمو العالمي، ولكن ذلك لم يؤد إلى زيادة في الأسعار فضلا عن قفزات كبيرة فيها؛ وفي ذلك الوقت لم يكن أحد يحلم مهما كانت أحلامه الأكثر جنونا أن برميل النفط سوف يقترب من 120 دولار. وعندما قامت الولايات المتحدة بغزو العراق فقد كان الحديث الشائع أن الهدف من العملية العسكرية هو العمل على تدفق البترول بأسعار منخفضة إلى الغرب الصناعي، ولكن ذلك لم يكن ممكنا وجاءت النتيجة عكسية تماما حينما لم يكن تدفق النفط سهلا، وفي كل الأحوال كان مرتفع الثمن. وبشكل ما فقد أصبح الأمر كما لو كانت الدول الغربية تتسابق على رفع الأسعار ليس فقط من خلال استغلال كل تطورات سلبية في الدول المنتجة مثل أحداث العراق أو العنف في نيجيريا أو البهلوانيات المضحكة لهوجو شافيز في فنزويلا لكي ترتفع الأسعار بسرعة كبيرة، وفوقها تسابقت الدول الغربية على فرض ضرائب على الاستهلاك تجعل الزيادة في أسعار النفط الخام متهافتة للغاية عند المقارنة بما تفعله الحكومات الغربية.

وهكذا وعلى عكس ما اعتقد المحللون العرب لوقت طويل أن الغرب بقيادة الولايات المتحدة يعمل على الحصول على النفط بغزارة وبأسعار رخيصة؛ فإن الأمر يبدو الآن كما لو كان أن الهدف هو العمل على رفع الأسعار إلى سماوات مفتوحة. وكل ذلك يدفع إلى الاستنتاج أن الفريق الداعي في الغرب إلى العمل على تقليص الاعتماد على النفط والانتقال إلى وسائل طاقة أخرى متجددة وغير متجددة هو الذي انتصر في النهاية. فطوال السنوات القليلة الماضية حاولت جماعات من الكتاب والمفكرين الغربيين والأمريكيين خاصة أن يدفعوا في اتجاه التخلص من الاعتماد على النفط، ونفط الخليج بصفة خاصة، بالسعي نحو مصادر جديدة لا يمكن الوصول إليها من دون إعطائها مزايا تنافسية وسعرية في مقابل النفط. ولفترة طويلة فإن الكاتب الصحفى في صحيفة النيويورك تايمز توماس فريدمان، كان هو المتزعم لهذا الاتجاه، ولكنه سرعان ما ضم إلى ناديه الفكري أعضاء في الكونجرس وجماعات سياسية مختلفة حتى وصل إلى القاعدة العريضة من الحزبين الرئيسيين حتى باتت الغنوة الشائعة في الانتخابات الأمريكية هي التخلص من الاعتماد ليس فقط على نفط الخليج وإنما على النفط كله.

المسألة بالطبع معقدة وغير معروف ما فيها من دعاية و«تهويش» وما فيها من واقع، ولكن المؤكد أنه عندما يرتفع مد سلعة ما في الدورة الاقتصادية إلى سقوف لا يصل لها احد تصبح البدائل ساعتها ليس فقط متاحة، وإنما رخيصة، أو بتعبير آخر تخلق حولها مصالح تروج لها. ولكن المشكلة بالنسبة لنا فهي أعمق من ذلك، وهي ليست سلعا كلها، ولكنها جزء من مسار العلاقات الدولية التي جنحت خلال السنوات الأخيرة، وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر خاصة، إلى اعتبار العرب مصدر متاعب عالمية لا حد لها. فقد بات العرب، وليس فقط العرب المنتجين للنفط، متحملين لمسؤولية ارتفاع الأسعار في العالم وخاصة في السلع الغذائية. وإذا كانت البرازيل هي التي بدأت عملية تحويل الحبوب إلى إيثانول فإنها ومن تبعها على نفس الطريق خرجوا من مسؤولية ارتفاع السلع الغذائية، وحتى من المسؤولية عن مضاعفة الاحتباس الحراري لكي تعود القضية كلها إلى العرب مرة أخرى باعتبارهم يتحملون المسؤولية عن كل المآسي الكونية.

هنا فإن القضية ليس مجالها الدعاية وغسيل الأدمغة، وما عليك إلا أن تضع العمليات الإرهابية إلى جانب أسعار النفط ومعها وجوه حزب الله وحركة حماس في الفضائيات العربية والأجنبية، وأشرطة الظواهري الدورية حتى تكتمل صورة «الإرهابى» و«الملياردير» العربي في صورة سلبية ومنذرة. وقد يكون ذلك مزعجا في حد ذاته، ولكن ما هو إزعاج أكثر فهو أن الأمر لا يبدو أنه يشغل أحدا، وفيما عدا دعوات من وقت لآخر حول حوار الحضارات أو الأديان فإن الاهتمام بخلق جسور تعكس الصورة والاتجاه لا وجود لها. وخلال الثورة النفطية الأولى خلال السبعينيات كانت الدول العربية النفطية في مقدمة الدول المانحة للدول الفقيرة ـ والمضارة من ارتفاع أسعار النفط ـ بأكثر مما كانت تفعل الدول الصناعية الغنية. ومع ذلك فإن السجل لم يشر إلى ذلك، ولم يبق منه إلا أن الدول العربية لم تعط إلا الدول الإسلامية في إشارة ضمنية إلى تعصب نحو دين أكثر من المشاركة في المشاعر الإنسانية.

المسألة تحتاج إلى قدر غير قليل من التفكير على جبهات متعددة منها مساعدة الدول الفقيرة، ومنها تقديم العون والإغاثة لمن يحتاجها؛ ولكن الأهم من كل ذلك رفض العزلة التي يدفع في اتجاهها تيارات محافظة في بلاد الغرب، ويجذبها في اتجاهنا جماعات داخلنا جنحت إلى مخاصمة العالم. ومن الجائز القول إن تكوين الثروات في البلاد العربية هو تعويض عن حرمان سنوات طويلة، ولكن المعضلة أن العلاقات الدولية لا تقوم على أسس من التعويض بقدر ما تقوم على قواعد من القوة والتبادل في سوق متنافسة. إن القضية تحتاج تفكيرا كثيرا!!