العراق.. مَقاتِل الرُّهبَان!

TT

يُعثر بين حين وآخر على جثة راهب أو شماس، فما أن ظهر قبر المطران بولس رحو بالموصل حتى سقط القس يوسف عبودي قتيلاً أمام داره وسط بغداد. وبهؤلاء وطبقات المقتولين العراقيين كافة غدت «المَقاتل» عنواناً جامعاً، وأي طبقة لم تُحصد من رؤوس عوامها وخواصها، حتى عندما يراد الكتابة توثيقاً لنجيع دماء وهدر نفوس غوالٍ تضطرب الأقلام! أياً من المَقاتل تُدوِن: الأطفال، أهل العلم، الأطباء، أهل الصحافة، الخبازين، الباعة والتجار، الحلاقين، النساء، أهل الأديان، فقهاء المذهبين من المسلمين، يا حيرة الذاكرة عن أي المقاتل تُخبر وتحكي؟!

إلا أن عنونة المقال بـ«مقاتل الرُّهبان» يشعرك أن الحرب الجارية لا شأن لها بمحارب أو قاعد، مثلما كان الناس يتجنبون صولة السلطة بقعودهم عن السياسة ورفع السلاح، أما حاضر البلاد فلا يميز بين صومعة راهب وربية مُقاتل! الرَهبانيَّة الجامعة بين الخوف والتعبّد، والخائف العابد لا يقود كتيبةً! والأديرة والكنائس بمجملها، خارج قرار قسطنطين الأول (ت 337 ميلادية) باعتمادها ديانة سلطة، كانت وما زالت ملاذاً لعابري السبل والخائفين من دون الأخذ بالانتماء، وهي ما عليه الآن شرقاً وغرباً.

تعددت الأغراض لدفع أهل الأديان إلى ترك العراق، ونظرة سريعة على ما حل بيهوده تجد ضغط الصهيونية وشراسة القوميين النازيين مختلطاً بدوافع الاستيلاء على أملاكهم، التي نهبها (حزيران 1941) ضعاف النفوس، وما ذهب منها إلى دائرة الأموال المجمدة. والحال قد يتكرر مع المسيحيين، فمن غير الغرباء القتلة، هناك عصابات (وطنية) وضعت العين على منازل وأملاك. وهل أمام المتبتلين بالكنائس، وهم يشاهدون دماء الرُّهبَان تسيل على عتباتها، سوى الهجرة! والحال ينطبق على المندائيين، وعلى ما عُرف بالتطهير المذهبي، فمفاتيح الدور المهجورة صارت إلى تلك العصابات.

هناك مَنْ يلوم شخصيات مسيحية دعت إلى ملاذٍ بسهل الموصل، وإذا كانت الكيانات القوية تبحث عن إقليم بذريعة القهر الطائفي أو القومي فلماذا يستهان بدعوة الضعفاء لإقليم واقٍ لأرواحهم إذا كان الوطن متجاهلاً حمايتهم!

ومَنْ يطلع على كتاب «القصارى في نكبات النصارى» (1919)، يجد النكبات وراء طلب العزلة بكيان جغرافي، قُبيل إعلان الدولة العراقية الحديثة (1920)، ليس شاذاً، وظلت المطالبة قائمة حتى مجزرة سميل بالآشوريين أو الآثوريين (1933)، حيث الموصل! وتغاضى أهل الطلب عن طلبهم، تحت شتى الأسباب، وأهمها وجود دولة عاصمة!

صنف الكتاب شاهد عيان، ويُعتقد أنه الأب إسحق أرملة (ت 1954)، بما جرى لرهبان ومسيحي شمال بلاد الرافدين بين (1895) وحتى (1915)، وكانت وراء هجرة الآلاف المؤلفة. ولا أجد مبرراً من نعت تلك الدعوة بالعمالة لبريطانيا بعد الذي حدث مع أمريكا! أما أصحابها فما زالوا، كلما هجم العنف عليهم، يلومون المحتلين القدماء لتنصلهم من وعدهم بكيان. وبالعودة إلى تلك المناخات، لا أظن أن استمرار العنف سيبقي للعراق وجوداً، ويبدو تعاطيه من قبل الأطراف ذوات السلاح وراء محاولات الإقناع بأقلمة البلاد، وبالتالي تدويلها، فالكل يبحث عن ضمان، إلا العراق بلا ضمانة!

قد لا يجد الرُّهبان، وأتباعهم إلا التفكير بأمرين: إما النزوح الجماعي وإما العيش بعهد موثق، والأخير لا يتحقق إلا بدولة قادرة، أو بإقليم تحت حراسة دولية، مثلما حصل لكورد العراق 1991. فبعد حرائق الكنائس، وتساقط الآباء والشمامسة، بين قتيل وأسير لا مفر من أحد الأمرين.

ولا نرجو الفِراق الأبدي لمَنْ لا يَرى له وجودا خارج هذه الأرض، والقول لأبي العلاء المعري (ت 449هـ): «إذا نأت العراق بنا المطايا.. فلا كُنَّا ولا كان المطيّا». وهؤلاء هم الشاهد على عزِّ حضاري، ما زالت ألسنتهم، بما يجيدونه من سريانية وآرامية، توصل الانقطاع بين ماضي العراق وحاضره، وهم بين نساطرة ويعاقبة توزعوا من بعد إلى: كلدان وسريان كاثوليك، ونساطرة، وأرثوذكس، وبروتستانت، وأرمن، وسواهم.

عود على بدء، صُنفت بالبصرة وبغداد أسفار في المقاتل: «مقاتل الأشراف» لأبي عبيدة (ت 209هـ)، و«مقاتل الشعراء»، لابن طيفور (ت 280هـ)، وأشهرها «مقاتل الطالبيين» لأبي الفَرج (ت 356هـ)، إلا أن المقتولين كانوا بين حملة سيوف وقصائد أزعجت آذان السلطان، وأن أزمنة مؤلفيها سمحت بالموازنة بين الموت والحياة، فعلى يمين الأصفهاني كان «المَقاتل» وعلى يساره «الأغاني» الجامع النفيس. أما عصرنا فلا يقر بذاكا! ويا ليت شعري! أصدق عليه قول أبي الفَرج نفسه: «يا سماء أسقُطي ويا أرض ميدي.. قد تولى الوزارة ابن البريدي»؟! وابن البريدي هذا لم يكن شخصاً بل بريديين (القرن الرابع الهجري) كانوا «أشد على العراق من ألد أعدائه» (هامش الفرج بعد الشدة).

[email protected]