كلفة الإنقاذ من صدام

TT

تحوّل الحروب الرجال والنساء والأطفال إلى خلافات احصائية، لا اكثر بل أقل. وتحول الحزن الصغير والحزن الكبير إلى بلاطة باردة واستعادات في الصحف. لا اكثر. ونحن نختلف اليوم حول عدد ضحايا ماو وعدد ضحايا ستالين وعدد ضحايا هتلر وعدد ضحايا بول بوت: خمسون؟ لا خمسة. عشرون؟ لا عشرة. ولكن المجموع المتفق عليه في النهاية عشرات الملايين، خيول هولاكو أو دبابات البانزر أو قاذفات البي. فيفتي تو.

ثمة خلاف دائر الآن حول عدد ضحايا العراق. كم كلف العراق (وأميركا) ثمن الخلاص من صدام حسين وأسلحته النووية؟ الرقم الأكثر قبولا هو الذي ورد في مجلة «لانست» الطبية البريطانية 601.027. لكن دراسة قامت بها منظمة الصحة العالمية قالت ان العدد مبالغ فيه أربعة أضعاف. وما زالت الارقام «النهائية» تراوح بين المليون و81 ألفا. والمسألة كلها الآن في أيدي «العلماء» والخبراء. وعلم النفس يقول انه عندما يضع الناس رقماً ما، أولاً يصدقونه، وثانياً يبذلون كل ما يستطيعون من اجل تبريره وتأكيده. مثلاً: اذا قيل لك ان هناك 600 ألف أوزة كندية في شيكاغو، سوف تميل إلى التصديق: أولاً هناك بحيرة كبرى، ثانياً هناك الكثير من الحدائق، ثالثاً ان شيكاغو قريبة جداً من كندا. وسوف تمضي في البحث عن «حقائق» كثيرة. في حين ان الحقيقة الوحيدة هي ان الأوز لا يزال في مثل هذا الوقت من العام متمتعاً بدفء فلوريدا وإذا هاجر إلى شيكاغو قضى.

أي قاعدة احصائية يمكن تطبيقها في العراق؟ ماذا اذا كان الرقم الحقيقي لضحايا العنف 150 ألفا؟ 150 ألف فجيعة في 150 ألف عائلة؟ أو ماذا لو كان حقا 80 ألفا في 5 سنوات؟ هل تخف المصيبة وتهدأ الكارثة؟ وماذا إذا كان عدد النازحين مليونين لا ثلاثة، أو حتى مليونا واحداً؟

الاحصاء علم غبي ولا يعرف كيف يحزن ولا كيف يفرح ولا يجيد التمييز بين الموت والحياة. ولنتأمل، مثلاً، القضايا والمآسي: كم عدد الذين ينامون جوعى في العراق؟ كم عدد الذين لا ينامون من الخوف؟ كم أعداد «التطهير الطائفي»؟ كم عدد السرقات؟

الذي يتأمل في تطور الحروب وفي مضاعفاتها يخلص إلى نتيجة واحدة وهي أن المشكلة الكبرى لم تعد الموت بل الحياة. فالموت يصبح مجرد أرقام خرساء وبلاطة باردة وأكفان تنعش صناعة الغزل والنسيج. لكن المأساة الكبرى هي كيف يعيش الباقون، لاجئين في المنافي ومرتعدين في الوطن.