حقوق الإنسان وحقوق الجوعان

TT

إنني ممن يعنيهم توفير الخبز للجياع أكثر من توفير الورق للمثقفين. يجعلني ذلك أقف موقفا متحفظا من كل هذه الموضة المتعلقة بالدعوة لحقوق الإنسان والديمقراطية. كل من قرأني يعرف مدى تعلقي بالديمقراطية. ولكن هذه الدعوة أصبحت مع الأسف كلمة حق يراد بها باطل، أو بعبارة أخرى يراد بها فتح أسواق وثروات العالم الثالث للنهب الغربي.

لقد أصبحت مسألة حقوق الإنسان والديمقراطية مأكلة لكثير من الأفاقين والانتهازيين والساذجين العرب وغير العرب. ألتقي بالكثير منهم في لندن. وبكل صراحة لن أأتمن أكثرهم على ترييض كلبي الصغير ناهيك من إدارة ثروات بلد. أعطانا العراق خير مثال على ما أقول. اتضح أن جل هؤلاء الذين كانوا يسعون لإسقاط صدام حسين والدفاع عن حقوق الإنسان العراقي، اتضح أنهم شلة من الحرامية والانتفاعيين والانتهازيين والعملاء. اتضح أيضا أن تطبيق الديمقراطية الغربية لا يضمن بالضرورة الخلاص للشعب ولا الازدهار للبلد ولا الوحدة للوطن.

تثور الآن ضجة متواصلة في الغرب عن حقوق الإنسان في الصين. هناك دول في العالم الثالث أسوأ من الصين بكثير في هذا المضمار والغرب ساكت عنها. المرأة الصينية مثلا أضمن حقوقا ولا تباع وتشترى لأغراض الدعارة كما يجري في كثير من جهات العالم «الحر». الظاهر أن الغرب يعتبر ذلك جزءاً من حرية التجارة واقتصاديات السوق. شعار «دعه يمر، دعه يعمل» تحول الى «دعها تزني، دعها تسمسر».

ماذا وراء الضجة بشأن حقوق الإنسان في الصين؟ منذ مدة غير قصيرة، يردد كبار الاقتصاديين أن الصين بنموها السنوي الذي يتجاوز عشرة في المائة، ستصبح بعد سنوات أقوى قوة اقتصادية في العالم وتتجاوز في ثروتها حتى الولايات المتحدة. إنها الآن تجتاح القارة الأفريقية بمشاريعها، وقلما يعثر المرء على سلعة في أسواق لندن وباريس لم تصنع في الصين. وفي هذه الأزمة المالية التي تهدد الدول الغربية الآن بالانهيار، أخذ الغربيون ينظرون الى الصين كمارد جبار يهدد كل مستقبل رفاههم. السبيل الوحيد لحبس هذا المارد في القمقم يتطلب تفتيت الصين وتطبيق الوصفة العراقية عليها. ما فعله الأمريكان في العراق باسم حقوق الإنسان والديمقراطية قلب الأوراق رأسا على عقب كما أرى.

لا يساورني أي شك في أن إخضاع الصين لسنن اللبرالية الأمريكية سيمزق الصين ويغرقها في لجة من الحروب الأهلية ويجعلها نهبا للشركات الغربية والانتهازية المحلية.

الشيء الذي يغيب عن ذهن الكثيرين، أن هذه الديمقراطية التي ينعم بها الغرب وتعطي هذه الحقوق للإنسان الغربي، لم تقم بفرك خاتم سليمان، وإنما بعد قرون من القمع والمعاناة وحرمان الإنسان من حقوقه. هكذا استطاعوا تكديس الثروة التي مكنتهم من إقامة مجتمع الرفاه. إنها قصة أليمة. ولكن هكذا شاءت الأقدار أن يولد الإنسان بالألم، يتوجع ويصرخ ويرفس برجليه قبل أن يستطيع الوقوف على قدميه.