نظرات إلينا وإليهم

TT

من الطبيعي أن تختلف الآراء حول تقييم الأوضاع في منطقتنا التي تموج بالكثير من التطورات والأحداث، ولكن من المهم أن تكون تلك الاختلافات تنطلق من تقييمات لا تستند إلى أفكار وآراء وتعبيرات تهب علينا من مناطق بعيدة لا صلة لها بواقعنا بل تعبر باللغة والجوهر عن مصالح ليس بالضرورة أن تكون هي الأولى بالتبني. نسمع ونقرأ مثلاً من يسمى الوطنية مراهقة، ومن يسمى المقاومة إرهاباً، ولعلهم بالفعل على اقتناع بما يقولون لأسباب قد تختلف في تقييمها، ولكنهم بالقطع لا يعبرون عن الواقع كما هو أو حتى كما نريد أن نراه يتطور. والغريب في الأمر أن أصواتا من الجانب الآخر تختلف معهم، فنرى فيه من يصف ما تفعله إسرائيل وصفاً دقيقاً وصادقاً، فقد سمعت مثلاً الرئيس الأمريكي الأسبق كارتر في محاضرته في الجامعة الأمريكية بالقاهرة يرد على طالب انتقده لأنه قابل «الإرهابيين» من حماس فيقول: إنه ضد إلقاء الصواريخ على المدن الإسرائيلية، ولكنه في نفس الوقت يرى أن ما ترتكبه إسرائيل ضد المدنيين الفلسطينيين وقصفها مدنهم هو الإرهاب ذاته، ودوت القاعة بالتصفيق، وسمعت بالأمس دبلوماسياً غربياً في القاهرة يقر بأن موقف الدول الغربية من حماس موقف خاطئ تابع للموقف الأمريكي الذي يطالب بالديمقراطية، ثم لم يكتف برفض نتيجة انتخابات فلسطينية حرة ونزيهة جاءت بحماس إلى الحكم بل فرض حصاراً فورياً بدون إتاحة الفرصة للحركة لكي تتطور تحت تأثير الواقع الملموس على الأرض ومقتضياته التي تدفع نحو مرونة لا تفرط ولكنها تتأقلم. وهذا الدبلوماسي مثلي لا يميل إلى حماس، وهو مثلي لا يتفق مع أيديولوجيتها ولا مع المجتمع الذي تريد أن تقيمه، ولكن هل نريد الديمقراطية بمفهومها المعروف، أم نريد «ديمقراطية على المقاس» وفقاً لمقاييس يتم تحديدها وفقاً للظروف.

لعلي قد استطردت كثيراً، ولكني في الحقيقة وجدت أن هذا الاستطراد مهم ومفيد فإن البعض يستعينون ربما بدون أن يشعروا بمفاهيم وتعبيرات منبتة الصلة بواقعنا الذي نريد فعلاً أن نغيره ولكن في اتجاه يتفق مع مصالحنا كما نراها نحن، وعندما أقول «نحن» فإنني أعني خياراً حقيقياً ينبع من داخلنا بدون أن نهمل ما يجري في العالم من تغيرات لا تلزمنا بالضرورة ولكننا نقتبس منها ما لا يجعلنا مجرد ممسوخ لغيرنا. وللأسف فإن البعض يندفع إلى محاولة إعادة كتابة التاريخ، ومن ذلك مثلاً قضية المفاوضات الأخيرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين التي جرت تحت رعاية الرئيس كلينتون في الأيام الأخيرة من ولايته. فقد استطاعت إسرائيل أن ترسخ في الأذهان قصة وهمية مؤداها «أن باراك طرح عرضاً غير مسبوق لو قبله الفلسطينيون لكانت لديهم الآن دولة مستقلة تتمتع بالرفاهية مثل سنغافورة، ولكن عرفات لم يجد لديه الشجاعة للقبول ولم يجد من الدول العربية تشجيعاً على أن يسير قدماً».

والحقيقة لا تتفق مع هذه الرواية التي فضحها بعض أعضاء الفريق الأمريكي المفاوض ذاته ممن شعورا أن ضميرهم وإخلاصهم للحقيقة يقضي ألا يصمتوا، وهم مثلي يقدرون الرئيس كلينتون وجهوده ولكنهم يؤمنون أيضاً بعدم السماح لموجات الضباب التي تثيرها إسرائيل أن تطمس الوقائع، فالعرض الإسرائيلي كان في تحليله الواقعي والعميق عرضاً مثل عروض «الحاوي»، وكانت لدى إسرائيل تحفظات كثيرة على ما طرحه الرئيس الأمريكي وكان الوقت ضيقاً في الأيام الأخيرة لحكم كلينتون الذي أصر على الدعوة إلى قمة دفعه إليها الإسرائيليون رغم تحفظات عرفات ـ بدون إعداد كاف. ثم إنه تم عزل عرفات والوفد الفلسطيني عن الدول العربية ـ بما فيها مصرـ التي لم تعرف بما كان يجري من تفصيلات المفاوضات، ثم فجأة طلب كلينتون أن تقنع الدول العربية الرئيس الراحل أبوعمار بقبول ما لا علم لهم به.

وأنا لا أعرف لماذا يعيدنا البعض إلى تاريخ مضى في بكاء على اللبن المسكوب، وقد سكبنا بالفعل لبناً كثيراً، ولكن غالبية الفرص التي يتحدثون عنها لم تكن في واقعها فرصاً حقيقية، بل كانت «ألعاب مرايا خداعية» والحقيقة أنه عندما ظهرت فرص حقيقية فقد تم اغتنامها كما فعلت مصر عندما حررت أرضها بالحرب والمفاوضات والتحكيم، وكما تصور الفلسطينيون أنها سنحت في أوسلو فإذا بمحاولات إجهاضها تبدأ مبكراً، وتعاونت فيها جهات كثيرة.

وكل هذا تاريخ لا يجدي أن نحاول إعادة كتابته فيلهينا ذلك عن الحاضر الذي نعيشه كل يوم والذي يتلخص في مواقف أمريكية وإسرائيلية لا تستهدف التوصل إلى تسوية حقيقية تتسم بالعدالة التي تضمن لها مقومات البقاء، وفي انقسام فلسطيني يتحمل الطرفان المتنازعان مسؤوليته حتى إذا اختلفنا حول تقسيم تلك المسؤولية، بينما تستمر إسرائيل في قضم الأرض الفلسطينية حتى لا يبقى منها قابلاً لأن يصبح دويلة إلا شراذم متفرقة تفصلها جدران من الإسمنت المسلح، ومستعمرات، وطرق ممنوع المرور عليها لأهل البلد، بينما تستمر المحاولات لتفريغ تلك الدويلة الافتراضية التي لا تغادر الأفق اقتراباً من واقع أيا كان، ويأخذ هذا التفريغ أشكالاً عدة من القتل والتجويع والطرد والاعتقال، والقضاء على جيل كامل بعدم السماح له بالانتظام في دراسة أو عمل، ثم يندهش البعض من تيارات العنف المضاد، والانقياد إلى فلسفات تقدم الموت على الحياة، وتقود أحياناً إلى حماقات في الفعل والكلام يجب أن نستنكرها ونعمل على تلافيها مع الإدراك بأن أفضل وسيلة لتلافيها هي بإجبار من يخلقون ظروفها عمداً على أن يكفوا عن ممارساتهم الخبيثة التي لا نرى العالم المتمدن ينتفض مطالباً وفارضاً وقفها حتى يمكن بالفعل إقامة سلام حقيقي.

أتساءل أحياناً لماذا لا يرى البعض في العالم الذي يقول عن نفسه إنه المتمدن وإنه الذي يحمل لواء المبادئ السامية والأخلاق.. لماذا لا يرون الحقائق كما نراها، ولماذا يتمكنون أحياناً من إقناع غيرهم وبعض هذا الغير منا نحن ـ بأن الحق والحقيقة إلى جانبهم، مع أن وقائع العراق وأبوغريب وجوانتانامو وغيرها كثير تكاد تصرخ في الجميع: «لا تصدقوا ما نقول بل صدقوا أفعالنا». ولقد غادر القاهرة أخيرا سفير أمريكي حاول قدر جهده أن يتقرب من المصريين وأن يتودد إليهم ويعكس لديهم صورة إيجابية عن بلاده، وقد قدر الكثيرون جهده، ولكنهم كانوا يفتحون أعينهم على وقائع ومواقف وتصرفات كثيراً ما تتناقض مع ما قد يكون بالفعل نيات شخصية طيبة، ليكتشفوا أن معسول الكلام لا يمحو سواد الواقع. ولولا رجال مثل كارتر بفكرهم الثاقب ونزاهة قصدهم لما كان من الممكن أن يتصور أحد أن السياسات الأمريكية يمكن أحياناً أن تميل بعض الشيء نحو الحق وتكف بعض الشيء عن الميل عنه. ولعلنا عند قرب انتخابات الرئاسة الأمريكية نحاول كل مرة أن نحيي الأمل، ولعلنا كثيرا ما نصاب بخيبة أمل ربما لأننا لا نبذل الجهد الكافي، لكي نربط مصالحهم بمصالحنا «وليس مصالحنا بمصالحهم» ونعبر عن أنفسنا بلغتنا ومفاهيمنا بدون أن نكتفي بالاقتباس منهم. وأنا أتصور أن الانفتاح على العالم هو طريق مزدوج، وأن علينا أن نتلقى عليه ونرسل فكراً مستنيراً لا فكراً ظلامياً، أو فكراً يكتفي بأن يكون تابعاً، أو صدى لما يأتينا منهم. وفي تصوري أن هذا يقتضي تطويراً عاجلاً لفكرنا وأسلوب التعليم لدينا وإتاحة مزيد من الفرص لكي تينع زهورنا في حدائقنا.