البابا وحقوق الإنسان

TT

طالب البابا بنديكت السادس عشر في خطابه الأسبوع المنصرم بالجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، بالتدخل الدولي التلقائي في حالة الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان، منتقدا مبدأ التوازن في القوة، الذي يحكم حاليا النظام الدولي.

ومع ان مبدأ «حق التدخل الإنساني» تبلور في أوساط منظمات حقوق الإنسان القريبة من اليسار في سياق المحاولات الجارية لإعادة صياغة القانون الدولي من منطلق «السيادة المتقاسمة»، إلا أن خلفيات المبادرة البابوية تندرج في سياق آخر، هو مذهب القانون الطبيعي ذي الخلفيات اللاهوتية المسيحية القديمة.

ولم يخف البابا هذه المرجعية، معتبرا ان حقوق الإنسان لا معنى ولا نجاعة لها خارج معايير الحق الإلهي، الذي يؤسس لمبدأ كرامة الإنسان، الذي بمقدوره وحده منح السمة الكونية لهذه الحقوق.

فالدين من هذا المنظور يساهم في ضمان هذه الحقوق «لأن الاعتراف بالقيمة المتعالية لكل إنسان يفضي إلى الوقوف ضد العنف والإرهاب والحرب، ويدفع إلى توطيد العدالة والسلم». ففي مقابل هذه المرجعية المطلقة، لا تقدم النزعة الإنسانية الحديثة سوى تصورات تغلب عليها العقلانية النسبية العاجزة عن صياغة موقف كوني شامل لقانون دولي يحمي الإنسان.

وليس هذا التصور بالبعيد من أطروحات اليمين الجديد في الولايات المتحدة الذي تتفق اتجاهاته المختلفة في رفض التصورات النسبية للحداثة الغربية، معتبرة أنها تضعف القدرة المعيارية على مواجهة الاستبداد والظلم، ما دامت عاجزة عن بناء مرجعية ثابتة ومطلقة للعدل والحق.

ولا شك أن البابا الفيلسوف قد تأثر في هذه النزعة بعلمين بارزين من بلاده الأصلية (ألمانيا) هما الفيلسوفان ليو شتراوس (الذي أقام بعد الحرب العالمية الثانية في أمريكا) وكارل شميت. أما شتراوس فقد عرف بنقده الحاد للفكر السياسي الحديث الذي خصص له أغلب كتبه، معتبرا انه قام على النزعة التاريخانية النسبية التي عوضت فكرة العدالة من حيث هي الانسجام مع حقيقة العدل بإرادة الذات الواعية الحرة، مما انجر عنه القول المدمر بتعدد رؤى ومسالك الحق الذي لا معنى معه لأي مقاربة أخلاقية كونية للسلوك الإنساني. ولقد دعا شتراوس الى الرجوع للفلسفات اللاهوتية الوسيطة التي ارتكزت على مبادئ الحق الطبيعي. ولنشر هنا إلى ان فكر ليو شتراوس قد اثر تأثيرا واسعا في اليمين الأمريكي المحافظ الذي تتلمذ بعض رموزه على يديه في جامعة شيكاغو. أما كارل شميت فقد عرف بنقده الجذري للقانون الدولي الحديث، من منطلق لاهوتي كاثوليكي واضح، يستعيد فكرة الحرب العادلة ومبادئ الحق الطبيعي، مع رفض صارم للمقاييس العلمانية وللنسبية المعيارية التي تسم التشريعات المعاصرة المتتأرجحة بين الإجرائية والوضعية.

ومن الواضح من خلال الرسائل البابوية الثلاث التي كتبها بنديكت السادس عشر منذ توليه المنصب الروحي الكاثوليكي الأسمى حول الرحمة والرجاء وحول العولمة (تصدر هذه الأيام) تأثر الحبر الفيلسوف بالأدبيات النقدية للحداثة، على عكس سلفه الذي بدا أكثر انفتاحا ومرونة.

فالرجل لا يتحرج على الرغم من تبنيه للعلمانية من المطالبة بدور محوري للدين في الشأن العام، كما لا ينفك يدافع عن القيم الأسرية المسيحية العتيقة التي يجد فيها المخرج من أزمات الفردية التي هدمت الرابطة الإنسانية الجماعية في الحضارة المعاصرة. وقد كرر هذه المعاني في خطابه الافتتاحي الأول أمام تجمع الأساقفة في أكتوبر 2005، معتبرا انه «من غير الممكن طرد الرب من المجتمع»، فالتسامح الذي يقبل حضور الرب في الحياة الخاصة دون الحياة العامة، هو نمط من «النفاق»، منتهيا إلى القول «حيثما يكون الإنسان سيد العالم الوحيد، لا مكان للعدالة».

فما نريد أن نخلص اليه هو ان خطاب البابا حول حقوق الإنسان يقوم على مفارقة الدفاع عنها من منطلق نبذ النزعة الإنسانية التي أسستها، بالرجوع لمنظومة الحق الطبيعي التي طالما بررت إبادة الأمم وانتهاك حقوق الناس باسم عدالة مطلقة ليس لهم يد في تصورها.