المهمة الفلسطينية المستحيلة في واشنطن

TT

لا نخطئ إذا وجهنا تحية إلى الدول العربية (الأردن ومصر والسعودية)، التي قررت انتداب ملك الأردن للذهاب إلى واشنطن في مهمة عاجلة، وإبلاغ الرئيس الأميركي جورج بوش أن من الأفضل له ألا يحضر إلى المنطقة للاحتفال بالذكرى الستين لإنشاء دولة إسرائيل، إذا لم يكن لديه جديد في موضوع إنشاء الدولة الفلسطينية قبل انتهاء ولايته في نهاية العام 2008.

إن الدول المذكورة هي أقرب الدول العربية إلى الولايات المتحدة الأميركية، وهي مؤيدة بوضوح لسياسة التفاوض والتسوية السياسية، ولكنها رغم هذا كله لا تستطيع أن تتعامل مع سياسة أميركية مخادعة إلى هذا الحد، تقول كلاما كثيرا ولكنها لا تفعل شيئا على الأرض. كما أن هذه الدول تشعر بانعدام «اللياقة» الأميركية، حين يقرر الرئيس الأميركي المشاركة في احتفالات الذكرى الستين لإنشاء دولة إسرائيل، وهو موقف معاد للعرب، ومن دون أن يشفعه حتى بأي إجراء عملي ضاغط على إسرائيل.

لقد عملت الولايات المتحدة الأميركية، منذ العام 2002 الذي شهد «رؤية بوش» بإنشاء دولتين إسرائيلية وفلسطينية، على الضغط على الفلسطينيين ودفعهم باتجاه تغيير أنفسهم. والضغط على الفلسطينيين من أجل التخلي عن القيادة التي تدعم «الإرهاب» حسب قولهم (قيادة عرفات)، وانتخاب قيادة جديدة تحارب الإرهاب. واعتبرت رؤية بوش في حينه أن وجود قيادة فلسطينية تقاوم الإرهاب هو شرط أساسي لإنشاء الدولة الفلسطينية.

وقد شهد الوضع الفلسطيني منذ ذلك الحين تغيرات كثيرة، إلى أن جاء الرئيس محمود عباس إلى السلطة. رجل لا يؤمن بالعمل المسلح ضد الاحتلال بل يقاومه. يؤمن أن الميليشيات الفلسطينية المسلحة لا جدوى منها، حتى أنه أصدر قرارا بحلها جميعا. وهو قبل رؤية بوش، وخطة خارطة الطريق، وخطط الجنرال دايتون الأمنية، وذهب إلى مؤتمر أنا بوليس، وعقد عشرات اللقاءات مع رئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود اولمرت، وبمباركة كاملة من الإدارة الأميركية. ولكن ما هي النتيجة بعد هذا كله؟ النتيجة أن إسرائيل ترفض البحث في إنشاء دولة فلسطينية، وترفض تحديد موضوعات الحل النهائي، وترفض تحديد جدول زمني لإنجاز المفاوضات، وترفض تحديد المرجعيات التي يتم الاستناد إليها في التفاوض. وقد قادت هذه السياسة الإسرائيلية إلى تفشيل المفاوضات، وإلى تحويلها إلى أمر عبثي. ومن أجل تغطية هذا العبث التفاوضي، غاب موضوع الدولة الفلسطينية عن طاولة المفاوضات، وحضر بدلا منه موضوع «اتفاق الإطار»، الذي يريد أن يكرر مرة أخرى تجربة اتفاق اوسلو 1993 السيئة الصيت والسمعة.

وقد ذهب الرئيس محمود عباس بنفسه إلى واشنطن للالتقاء مع الرئيس جورج بوش، وبعد يوم واحد من تلقي بوش للرسالة العربية، فلم يسمع منه سوى تكرار للمواقف الإسرائيلية، مما يثبت ويؤكد للمرة الألف أن الإدارة الأميركية تدعم الموقف الإسرائيلي، وتضغط على الفلسطينيين من أجل قبوله. فحين استقبل بوش الرئيس عباس، خاطب الصحافيين داعيا إلى اتفاق، ليس حول الدولة الفلسطينية، بل حول تحديد معالم الدولة الفلسطينية. قال بوش «إن الدولة الفلسطينية هي أولوية عالية لي ولحكومتي، وأنا على ثقة بأننا قادرون على تحديد معالم الدولة الفلسطينية قبل نهاية ولايتي». وبهذا يتطابق الموقف الأميركي مع الموقف الإسرائيلي، ويتشكل منهما موقف واحد ضد المطالب الفلسطينية والعربية.

إن هذه الصورة المتشائمة ليست صورة نقدمها نحن فقط، فالناطقة الرسمية باسم البيت الأبيض، تعلق على زيارة عباس وتقدم صورة أشد قتامة. تقول «منذ أنابوليس لم تحقق مساعي السلام سوى خطوات متعثرة». وتقول «لا يزال التوتر الشديد يعتري العديد من مسائل خارطة الطريق، وأبرزها مواصلة بناء المستوطنات والبؤر الاستيطانية الإسرائيلية في الأراضي المحتلة».

في مواجهة هذه الصورة، يملك الرئيس محمود عباس قدرة هائلة على الصبر، إنه ينتقل من لقاء إلى لقاء، من دون أية نتيجة، وحين ييأس من الموقف الإسرائيلي يلجأ إلى «الأخ الأكبر» الرئيس الأميركي فيزداد يأسه. ولكنه يرفض الذهاب إلى النتيجة المنطقية الوحيدة لهذا كله، أي الانسحاب من المفاوضات. الرئيس عباس يقول لجلسائه المقربين دائما: لا أمل من هذه المفاوضات، وإسرائيل لا تعطينا شيئا، ومع ذلك يجب أن نواصل المفاوضات لأن مواصلتها تبقي الضغط الدولي قائما ضد إسرائيل، أما إذا انسحبنا من المفاوضات فإن الضغط الدولي سيتجه نحونا. إن هذه النظرة سيزيفية أكثر مما هي سياسية، ففي السياسة شيء اسمه الزمن، وشيء اسمه الإنجاز، وحين لا تؤخذ هذه القضايا بعين الاعتبار، فإن الأمور تنقلب ضدك.

في سياق هذا كله تواصل إسرائيل إطلاق تكتيكات مفيدة لها. أبرزها ثلاثة تكتيكات:

أولا: الحديث بين فترة وأخرى عن ضرورة تنشيط المفاوضات مع سوريا. وهي تستعمل هذه النقطة للضغط على الفلسطينيين أكثر مما تستعملها لمغازلة سوريا. والقادة الإسرائيليون المعتدلون مقارنة بايهود اولمرت، رفضوا الاتفاق مع سوريا، لأنهم كانوا ولا يزالون، يريدون مساومة حول مياه الجولان، ومياه بحيرة طبريا، وهو ما رفضته سوريا باستمرار.

ثانيا: الحديث الدائم عن ضعف الحكومة الإسرائيلية، وأنها مهددة بالسقوط إذا فعلت كذا أو كذا، ولذلك يجب على الفلسطينيين أن يقبلوا الأمر الواقع حتى لا تنهار عملية التسوية برمتها. إن الحديث عن ضعف الحكومات الإسرائيلية هو حديث دائم، وليست حكومة اولمرت سوى أحد مظاهره. لقد مارس اللعبة من قبل بنيامين نتنياهو، ومارسها ايهود باراك، لا بل إن البعض يتعمد تشكيل حكومة تضم بعض المتناقضات لكي يستعمل احتمال سقوطها ذريعة سياسية تشكل حماية له.

ثالثا: الحديث عن الانتخابات القادمة بعد فترة، حيث لا بد لكل طرف من الأطراف السياسية المتصارعة، أن يصوغ مواقفه السياسية بما يضمن له النجاح في الانتخابات والبقاء في السلطة، فالكل يعرف طموحات وزيرة الخارجية تسيبي ليفني، وطموحات وزير الدفاع ايهود باراك، وطموحات رئيس حزب الليكود بنيامين نتنياهو. وكلهم يلتقون حول نقطة واحدة هي رفض التجاوب مع مطالب الحد الأدنى الفلسطينية. ومواقفهم باقية على حالها قبل الانتخابات وبعد الانتخابات.

والمهم أن هذه التكتيكات الإسرائيلية، التي أصبحت نوعا من ألاعيب الحواة، تلقى دائما الدعم والرعاية والتقدير من الإدارة الأميركية.

هذا الوضع المعقد بين فلسطين وإسرائيل والإدارة الأميركية، يتجاوز حديث التطرف والاعتدال، ويؤكد أن التطرف موقف إسرائيلي ـ أميركي أولا وبالأساس. ولكن الولايات المتحدة قادرة كدولة عظمى أن تلصق تهمة التطرف بسواها. ولكن هل ستستطيع أن تفعل ذلك مع الأردن ومصر والسعودية، وهي التي تتطلع إليهم دائما كحليف؟ وهل تعتقد الولايات المتحدة الأميركية أنه ليس من حق الحلفاء أن يغضبوا؟