الانتخابات القادمة هي المحك

TT

كم هو بسيط وهين كيل الاتهامات المتبادلة حول من هو وطني، ومن هو غير وطني في العراق، فعندما يكون الوطن نفسه (في محل الشك) يصبح من السهل على كل «الخاسرين» من الوضع القائم إلباس مواقفهم ثوب الوطنية «المجاني»، ويصبح من السهل على كل «المستفيدين» ادعاء الوطنية ورمي خصومهم بتهمة العمالة الاثيرة لدى كل من الحكومات والمعارضات العربية. وفي الحقيقة ان من يشاهد الإعلام في السنوات الأخيرة، ويرقب ما يقوله الفرقاء عن بعضهم ليذهل من «مفارقة» التخوين المتبادل.

مشكلة ثقافتنا السياسية انها بلغت حدا من الغرق في الوهم الخطابي، بحيث ماعاد ممكنا قياس حجم التناقضات بين القول والفعل أو فهم المعايير السائدة في التقويم مع احتدام الخطاب الغريزي والعاطفي.

اذا كان جميع الفرقاء في العراق يحبون العراق وجميع خصومهم «عملاء» او «غير وطنيين»، هنالك اليوم ببساطة فرصة لقياس تلك الوطنية ولقياس مدى اقتناع العراقيين بوطنية كل طرف، وبالتالي مدى استعدادهم لتخويل اي من مدعي الوطنية مهمة تحويل الاقوال الى افعال.

هنالك حدثان انتخابيان قادمان، الاول هو انتخابات مجالس المحافظات في اكتوبر من هذا العام، والثاني هو انتخابات مجلس النواب في ديسمبر من العام المقبل. قبل أن يبدأ البعض النواح منذ الآن على نزاهة الانتخابات وادعاء القدرة على الفوز لو كانت الانتخابات نزيهة، ما زالت هناك ستة اشهر تمثل متسعا كافيا من الوقت ليدلي الجميع بمخاوفهم وشكوكهم «الحقيقية وليست المتخيلة» حول نزاهة الانتخابات، وان كان لدى البعض شكوك حول ضغط يمارسه الامريكيون أو حول شفافية لجنة الانتخابات، فإن الأمم المتحدة (وهي لم تتهم حتى اللحظة بالعمالة الى أحد) قد اظهرت استعدادا للانخراط المباشر في التحضير للانتخابات، واذا ما تم تصعيد الضغط عليها وعلى من يصنع القرار لربما ستوسع نطاق المشاركة في الاشراف على العملية الانتخابية. معلوماتي ان معظم الأحزاب الموجودة حاليا في البرلمان (باستثناء المجلس الاسلامي الأعلى) قانعة بلجنة الانتخابات الراهنة، وان لم تكن كذلك فلا مبرر للصمت وعدم الاعلان صراحة عن اوجه الاعتراض، الا اذا كانت الغاية انتظار نتائج الانتخابات، قبل البت فيما اذا كانت نزيهة او لا، استنادا بالطبع على ما يعتقد الحزب انه جدير بالحصول عليه وليس على المجريات الحقيقية للعملية الانتخابية.

الاحزاب الرئيسية قد تحاول القيام بكل شيء من شأنه ضمان ان تصب نتائج الانتخابات في مصلحتها، ولكن امام الآخرين ستة اشهر لعمل كل شيء لمنع هذه الاحزاب من تحقيق هذا الهدف، والقوى الموجودة خارج البرلمان ومجالس المحافظات، لا سيما التكنوقراط والمثقفين وابناء العشائر وبعض من لم تسمح لهم الظروف الأمنية سابقا بالمشاركة، لديها فرصة لتنظيم صفوفها وتشكيل تكتلات قادرة على الضغط السياسي والاعلامي للتأثير على ارادة الناخبين. الحجة التي يستخدمها البعض من انهم يخشون على حياتهم من العودة «غير المضمونة» الى العراق لم تعد حجة مقنعة اذ ان نظام الانتخابات لا يمنعهم من البقاء خارج العراق وادارة حملاتهم الانتخابية عبر وسائل الاعلام، التي يعلم الجميع انها منفتحة على كل «الواعدين بالتغيير»، وحتى الاحزاب الحاكمة حاليا لم تجر حملاتها السابقة في الشارع بل عبر منابر الاعلام، ومن يتهم باستثماره سابقا موقف المرجعية الدينية لم يعد اليوم يمتلك مثل هذه الورقة، بعد ان اظهرت المرجعية نأيا بنفسها عن السياسات الحزبية، بل وتصدرت النقد لبعض ممارساتها. وهي في السابق دعمت مبدأ الانتخابات اكثر مما وقفت الى جانب فريق ضد آخر.

اعلان المجموعة السياسية التي يقودها اياد علاوي عن الشروع بتشكيل جبهة جديدة تضم شخصيات واطراف جديدة، هو خطوة في الطريق الصحيح نحو تعزيز مشروعية وحضور العملية الانتخابية، ونحو تشكيل معارضة لا تقوم على اساس المناكفة الطائفية تسلط بدورها ضغطا على الاحزاب الحاكمة كي تحسن من ادائها، وتعيد النظر بالشخصيات التي تمثلها، ولأول مرة تلوح في الأفق امكانية كسر الاستقطاب الطائفي والمراهنة على الاستقطاب البرامجي.

اولئك الذين يريدون طرد «الاحتلال» كما يعلنون امامهم فرصة ذهبية ليفعلوا ذلك بدون ان يريقوا قطرة دم واحدة او يطلقوا رصاصة واحدة، يمكنهم النزول بقوة الى ميدان التنافس الانتخابي والضغط من اجل مشاركة كل «الثقاة» في الرقابة على الانتخابات، انها فرصتهم ليسألوا هذا الشعب الذي لطالما تحدثوا باسمه عما اذا كان مستعدا لتخويلهم فعلا القيام بهذه المهمة. ما سيقوله البعض مجددا من انه «لا انتخابات في ظل الاحتلال» سيكون نكتة سمجة اخرى، لا سيما عند المقارنة مع صدقية الانتخابات قبل الاحتلال ومع صدقيتها في بلدان قريبة بلا احتلال. هل سيفرط هؤلاء الاكثر زعما للوطنية بهذه الفرصة «المجانية» وبحكم ما يدعيه كل منهم من شعبية لنفسه كي يطردوا الاحتلال، ام انهم شأنهم شأن اساطين الخطاب العربي لا يجيدون الا معارك الكلام، فهي وحدها التي تمنحهم شرعية «الفضائيات» كبديل عن شرعية الانتخابات.

لدى الجميع فرصة للضغط بكل ما أوتي من قوة و«وطنية» من اجل ضمان انتخابات نزيهة الى الحد الممكن في مجتمعنا والمقبول وفق المعايير الدولية، بعد ذلك لن يغير من التاريخ المزيد من عض اصابع الندم، ولن يصلح ما قد يفسد بالعزوف أو التعالي أو التلكؤ أو التشكيك المسبق، أو المزيد من الخطابات الزائفة عن «الوطنية»، فالوطنيون في ابسط تعريف اناس يفعلون كل ما يستطيعون ليمنحوا شعبهم حق قول كلمته بحرية حتى لو كانت غيرما تطرب له آذانهم.