الوحدة العربية والفكر القومي.. السقوط في فخ الشعارات!

TT

هل باتت القومية كمصطلح مستساغة في عالمنا اليوم؟ وهل طرح الشعارات واجترارها بات مجديا أمام لغة جديدة كونية هشمت المسلمات، وأسقطت تسلط التقليدي والمعتاد؟ تبادرت إلى ذهني هذه الأسئلة وغيرها وأنا أقرا خبرا عن استضافة دمشق لفعاليات مؤتمر «تجديد الفكر القومي والمصير العربي»، وذلك بمشاركة عدد من المثقفين العرب. وتناول المؤتمر موضوعات تتعلق بالمسؤولية الملقاة على عاتق المثقف العربي في الدفاع عن الحق وتعميق الانتماء القومي في مواجهة المخططات التي تستهدف مصير الأمة ومستقبلها، كما تناول مواضيع تتعلق بالفكر القومي والحفاظ على الهوية العربية، والدفاع عن المصالح القومية.

الحقيقة انني لم استوعب انه ما زالت هنالك مؤتمرات تعقد لطرح مواضيع أكل عليها الدهر وشرب، فأعادتنا إلى الوراء خمسة عقود، حينما ثبت فشلها الذريع آنذاك، فما بالك بوقتنا الحاضر. وبالتالي لم افهم كيف أن الفكر القومي ـ إن وجد ـ يستطيع مواجهة طوفان العولمة، وأكاد اشك في أن هؤلاء المثقفين لا يعيشون معنا على ذات الكوكب، فالمسألة ليست نقدا لشخوصهم وآرائهم أو تمجيدا للعولمة بقدر ما أنها قراءة للواقع الماثل، فمن يتأمل تأثيرات العولمة وإفرازاتها، يلحظ أنها كرست مصطلحات ومفردات لم تلبث أن أخذت مكاناً فسيحاً في العالم، حيث بلورت مفاهيم الاندماج الإنساني والتعايش والتلاقح الثقافي. وبعيداً عن الحماسة الأيديولوجية، أو العاطفة القومية، نجد أن التقويم الموضوعي للوضع الراهن الآن، يشير إلى ان العولمة، رغم سلبياتها، تسهم في ردم الهوة وتجسير الفجوة ما بين الأنظمة والشعوب، لأنها ببساطة شكلت تضاريس ملامح إنسان هذا العصر، مكرسة، قدر الإمكان، فك إساره من القيود والعوائق، التي كبّلته. وفي المنطقة العربية تحديدا، لاسيما بعد الأحداث والمتغيرات الأخيرة ثم انه كيف يمكن بثّ مفهوم التعايش والتسامح مع «الآخر»، بينما الخطاب الذي خرج من المؤتمر يدعو إلى القومية ويحذر من المؤامرة؟ ويكيل اتهاماته للمخططات الخارجية وللقوى الامبريالية، وكأننا ضحية لا نتحمل شيئا من المسؤولية؟ ولكن دعوني أتساءل هل صحيح أن نقد «الآخر» أهم من نقد «الذات»؟ أليس من الطبيعي إصلاح الداخل قبل تعرية مشاكل الآخر؟ أليس من المنطقي حل مشاكل المحلي قبل الانتقال إلى قضايا الدولي؟

الاعتراف بالخطأ هو الخطوة الأولى لعلاجه، لكن ما يطرحه المؤتمر من شعارات تخديرية للشعوب لا تعني بأي حال من الأحوال تعليقا للجرس! إن أردنا المضي نحو المزيد من المكاشفة، فإننا نقول إن بعض مثقفينا ما زالوا يفتقدون إلى الشجاعة الأدبية في محاولة الانفكاك من الإسار، واعني بذلك توظيفهم من اجل أجندة سياسية، وكأنهم أدوات للتبرير ولتمرير الرسالة المراد إيصالها، وهنا تكمن الكارثة أي تداخل السياسي في الثقافي. وبالتالي تقع الشعوب فريسة لتلك الطروحات التي لا تلبث أن تكرس حالة الانكسار والإحباط ودوامة الصراع المرير، معلقة أخطاءهم ومصائبهم على شماعة الآخر، مع انه يفترض أن يكون للمثقف رسالة نزيهة عليه القيام بها بدون الرضوخ للضغوط والمساومات والمصالح الذاتية.

وما دمنا في هذه الحالة، فإن النتيجة هي السقوط في فخ المصطلحات الكبيرة والتضخيم والتهويل والمكابرة وتضخم الأنا والهروب من الواقع، والتهيب من المستقبل، مما يؤدي إلى تشكل مجتمعات منغلقة على ذاتها، ومهددة بانشراخها وتهشمها في أي لحظة مواجهة مع الآخر. وهنا رب قائل يتساءل حول إمكانية تحقيق اتحاد عربي شبيه بالأوروبي أو حتى الافريقي. إنما الإجابة الحارقة هو: كيف يمكن أن نبدأ الخطوة الأولى لتحقيق ذلك، بينما تعاني المجتمعات العربية من الفقر والاضطهاد والتخلف، فضلا عن تلون المثقف ومزاجيته؟ ان عالمنا العربي بحاجة إلى التعاون ككتلة منتجة، لكن قبل ذلك على دُوله الخروج من شرنقة التقليدي إلى فضاء الانفتاح، وان ينزع مثقفوه الى الارتهان للموضوعية والواقعية والشفافية، وفي كل ما من شأنه المساعدة على بلوغ النهضة والتنوير والتنمية والإبداع. وطالما ان الأرضية صلبة، والهياكل المؤسسية في الوطن العربي متقاربة ومتشابهة، فإنه من السهولة بمكان تحقيق الوحدة العربية العصرية، التي تستند إلى المصالح وفق العقل والمنطق والتحليل المعرفي (وليست وحدة جمال عبد الناصر الوجدانية)، لا سيما ان عالمنا العربي مليء بالموارد والطاقات والإمكانات التي تفسح له مكاناً في خارطة العالم.

ولعل التحليل النفسي لهكذا معضلة، يؤكد أن تقويم التاريخ وبطريقة انتقائية وبصورة زاهية تخلو من الموضوعية والواقعية، تؤدي، إلى الانتكاسة والإحباط وفقدان الثقة، لاسيما حينما ترتطم بالواقع وبالحقائق الناصعة.

وفي هذا السياق يقول هشام شرابي «إن النظرة المبالغ فيها إلى اللغة العربية والحضارة العربية والإسلامية، تدفع العرب إلى تقويم أنفسهم وحضارتهم تقويماً غير واقعي ومبالغاً فيه، وعندما يجابه العرب ضعفهم وانقساماتهم يعزون ذلك إلى الجهل والتدخل الأجنبي (المؤامرة) وليس لأسبابه الحقيقية التي تفسخ المجتمع العربي إلى عشائر وقبائل فيعوض العرب عن شعورهم بالضعف والتخلف بادعائهم انهم منبع الحضارة الغربية، فيشعرون أنهم شعب مختار (تضخم الأنا)، وبهذا يرسم العرب الماضي والتاريخ كما تمليه عليهم آمالهم وطموحاتهم (الأحلام)، فهم لا يستطيعون رؤية المستقبل، إلا من خلال الماضي الذي يخترعونه لأنفسهم».

صفوة القول، إن المؤتمر جاء ليرسخ مأساة المثقف العربي (الشعاراتي المُسيّس) المخادع لأمته بمعسول الكلام وبالمصطلحات الضخمة، ليكتوي الإنسان العربي بنار الصراع الداخلية، حيث تضخم الأنا وواقع الضعف والانحدار المرير، وما له من تناقض، وما أصعبها من معاناة!