فلاح وفلاحة

TT

مصر هذه الأيام تعيش ازمة رغيف الخبز. التلفزيون يحمل صور المظاهرات واخبار المحاكمات، وبريد الانترنت يحمل اشعار احمد فؤاد نجم وارهاصات مجدي خليل ومدونات يطيب لاصحابها ابداء الرأي والتبشير بالويل والثبور وعظائم الامور. ورغم كل شيء تأبى روحي الا ان تردد أن مصر في خاطري وفي فمي احبها من كل روحي ودمي. يا ليت كل مؤمن يحبها حبي لها.

مصر هي مصر. أم العرب اجمعين، وليس هذا تفاخرا او خيالا، فأنت وأنا نؤمن بنبوة الخليل إبراهيم وبما جاء في القرآن الكريم. كانت هاجر المصرية ام اسماعيل، ومن اسماعيل تحدرنا انا وانت وهو وهي. اينما كنت مواطنا في بيت العرب، جيناتك تحمل جزءا من جينات هاجر المصرية.

في ثلاثينات القرن الماضي كتب المؤرخ بريستيد كتابا ما زال يعتبر المرجع الاول لتاريخ حضارة وادي النيل بعنوان فجر الضمير.

اعجبني انه لم يضع عنوانا لكتابه يتحدث عن مهد الحضارة لأنه تعبير يرد على الخاطر واللسان كقالب محفوظ. ولكن الحديث عن الضمير يستوقف العقل. منذ خمسة آلاف عام سجلت مصر في متون الاهرام وصف انسان لنفسه حين قال:

لم اعص اوامر الإله، لم اعق والدي، لم ألوث ماء النيل، لم اصد الماء وقت جريانه، لم اطفف في الكيل ولم اغش في القياس، لم اختطف الحليب من فم الرضيع ولم اطفئ شعلة في وقت الحاجة اليها.

تلك القيم هي القيم التي توارثها المصريون وعقيدة يحكمها الميزان وريشة ماعت، ربة العدالة التي لا تفرق بين الناس مهما تفاوتت اقدارهم الاجتماعية. وماعت ليست شخصا وانما هي فكرة تعبر عن نظام اخلاقي اجتماعي. هي دستور عام للفضائل الجماعية التي يرتكز عليها الحكم. ماعت هي نظام، والنظام نقيضه الفوضى. ماعت هي العدل والعدل نقيضه الظلم. وهي الصلاح ونقيضه الفساد.

في مصر بدأت ديانة التوحيد والايمان بالبعث والثواب والعقاب. ولتلك الاسباب تأصل الاسلام في مصر منذ الفتح الاسلامي حتى اليوم.

مصر القديمة عاشت ازمنة انطوت على قيم اخلاقية وفكرية رفيعة استمرت معنا ثم جاء الاسلام فهذبها واضاف اليها لتصبح ملكا للعالمين. كثر هم فراعنة مصر الذين وصفوا بالكفر وضرب بهم المثل في الطغيان والاستبداد، ولكن كثيرا من الفراعنة ايضا عرفوا بالعدل والتواضع، ومنهم مينا موحد القطرين وامنمحعت رائد النهضة الزراعية واحمس طارد الهكسوس. والفرعون لم يكن بالضرورة قاسيا غليظ القلب، بل ان فكرة الحاكم العادل اجتذبت اجيالا من المفكرين الذين خلصوا الى ان الحاكم العادل وحده قادر على رد الظلم والفساد. ولعل تلك الصلة المبشرة بعظمة حكم الفرعون تتجلى في قصة الفلاح الفصيح الذي حذر الفرعون من دنو الاجل وكتب له قائلا «امنع السارق، واحم المسكين... نقب عن الحقيقة، ولا تكن ظالما حتى لا تدور عليك الدوائر. لا تسلب فقيرا قوته، ولا تنهب ضعيفا ماله، فإن مال الفقير حياته. شكاوى الفلاح الفصيح شبيهة بالمواد الدستورية التي تحدد العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ولا يمكن ان يختلف عليها من يحددون ميثاق حقوق الانسان.

ذلك هو وجه مصر مهما عز رغيف الخبز. في ماضيها شموخ وفي حاضرها أمل. وكيف لا ومن يقرأ التاريخ يعرف تماما ان قصة الفلاح الفصيح تنتهي نهاية سعيدة.