تحضر الإنسان في ثقافة البيئة والعلوم

TT

نحاول في هذا المقال تسليط الضوء على مشكلة البيئة المرتبطة بالإيكولوجيا، من زاوية تلويث الطبيعة ودور الإنسان في تفاقم هذه المشكلة التي بدأت تؤدي إلى تغيرات مناخية كارثية على العالم. وبينما هذه المشكلة هي في تفاقم مطّرد، نلحظ ان دول الشرق الأوسط لم تعرها حتى الآن اهتماما فعليا على الرغم من أن هذه المنطقة معرضة بشكل جدّي لتأثيرات التغير المناخي العالمي. وتبدل ديكورات الحياة البشرية فوق هذا الكوكب.

وقد خلص مؤتمر علماء البيئة الإيكولوجيين السنة الماضية في باريس الى ان الإنسان امام مواجهة هي الأخطر على مستقبل وجوده من خلال التغيرات البيئية الضخمة المتسارعة منذ قرون، وخاصة، القرنين التاسع عشر والعشرين حين ادخلت الصناعة تغييرات جذرية على العديد من مناحي حياة الانسان وباقي الكائنات الحية. ولكن لا تغييرا من دون سلبيات. وها قد تطورت الصناعة وظهرت أخطارها في صميم حياة الانسان والطبيعة.

ان الانسان بتطوره المطّرد ومحاولته سبر أغوار الكون وعالم الجزئيات الميكروسكوبية لمعرفة المكوّن الاساسي لكل ما ظهر من قوى وطاقات، انحرف بنظرته الى الأمور عمّا هو أساس في الحياة، أي الطبيعة التي منها تجسد الإنسان وأصبح يعتقد وكأنه مكوّن منفصلٌ عنها، متفوّق عليها، متناسياً أنه جزءٌ منها.

ان التطبيقات الضخمة غير المدروسة انعكاساتها على حياة الانسان نتجت عن تطور العلوم الدقيقة كالفيزياء وعلوم الحياة والكيمياء وغيرها في اطار التطور التكنولوجي الذي ادى من خلال نظريات اقتصادية اجتماعية، الى فكرة التأمين العشوائي لحاجات السوق في المجتمعات التي اصبحت ذات ثقافة استهلاكية اكثر فأكثر، مما ادى الى استنزاف ما تخزنه الكرة الارضية منذ ملايين السنين من مواد وطاقات تلعب دوراً مفصلياً في توازن الطبيعة التي يشكل الانسان جزءا من مكوناتها، واصبح الآن لاعباً اساسياً في توازنها.

انطلاقاً من هذه النظرة يطرح سؤال نفسه: لو ملكنا الوسائل التكنولوجية للتمكن من جميع وسائل الراحة، وحتى لو طورنا الكثير من التقنيات من اجل امتلاك المعرفة وخسرنا الارض التي هي اساس وجودنا، فماذا نكون قد حققنا؟ اذا استطعنا بناء مسرعات ضخمة لسبر عالم الجزئيات أو بناء محطات فضائية لزيادة معرفة هذا الكون الشاسع وتركنا الطبيعة تُستنزف وشعوب الارض الفقيرة منها تعاني المجاعات، مستسلمين لمقولة مالتوس «ويلٌ للفقراء» وللنتائج الكارثية للتغيرات المناخية، سيغدو هدف الانسان البحث عن مكانٍ يشبه الارض التي كان يعيش منها ويحافظ عليها؟

مشاكل: المشكلة بدأت تتجلى بظاهرتي التصحر والفيضانات الناتجة عن الصناعات التي أدت الى ارتفاع حرارة الارض، وانثقاب طبقة الأوزون (التي تحمي من الإشعاعات ما فوق البنفسجية) التي يقول علماء البيئة إن عودتها الى الوضع الطبيعي يتطلب عشرات السنين إذا أوقفت الصناعات الكيميائية، مع العلم أن الانحباس الحراري أدى الى بداية ارتفاع منسوب المياه في المحيط الشمالي. وحتى محيط الغلاف الجوي للكرة الارضية امتلأ بنفايات المركبات الفضائية والاقمار الصناعية التي تهددنا بالتساقط مجدداً. والحال إذا أبرزنا المشكلات البيئية التي يعاني منها لبنان، سنجدها متجسدة بانخفاض الثروة السمكية بسبب تلوث معظم الشاطئ اللبناني، مما جعل وجبة السمك في لبنان مرتفعة السعر بينما هي الارخص في البلدان البحرية الاخرى. ولا نغفل الحرب الاسرائيلية المدمرة على لبنان عام 2006، حيث تم نسف مخزون البترول في البحر مما أدى الى كارثة بيئية بحرية هي الأكبر في تاريخ البحر المتوسط. كما يجب ذكر انخفاض الثروة الحرجية، وتلوث الأنهر، وتفاقم الحالات المرضية المرتبطة بتلوث المصانع كالربو والسرطان والقلب والأعصاب وغيرها، وتلوث المياه الجوفية نتيجة طمر النفايات غير المدروس. ومن المفارقات عراقة لبنان في اصدار قوانين لحماية البيئة. فمن هذه الزاوية نتساءل: أما آن لجميع الاطياف السياسية في لبنان أن تلتقي أقله على صون الطبيعة في لبنان؟

في العديد من الدول المتقدمة صناعياً تبرز أيضاً مشكلة الصناعات النووية التي تواجه صعوبةً في التخلص من النفايات المشعة وكمية انبعاث الغازات المضرّة.

حلول: إن أهمية إصرار الاتحاد الاوروبي على تحديد كميات انبعاث الغازات الناتجة عن الصناعات الثقيلة ووسائل النقل في كل دولة ضمن الاتحاد، والعمل على حضّ الولايات المتحدة الاميركية على تطبيق معاهدة كيوتو، هما تعبيران صارخان عن إدراك خطورة الوضع البيئي، مع الملاحظة ان هذا النمط الجديد التلويثي للطبيعة من كل دولة سيؤدي في مرحلة معينة الى تحديد الاولويات في التصنيع، مما سيؤدي في شكل من الأشكال الى تقويض مفهوم حرية السوق وتصنيف أولوية الحاجات الاستهلاكية في المجتمع. فنستطيع القول إننا ننتقل من مرحلة التلوث العشوائي الى التلوث المنظم. بعد عرضنا للمشكلة البيئية الآخذة في التزايد بشكل مطرد، نتساءل: متى ستفعل المؤسسات الدولة كالأمم المتحدة وجامعة الدول العربية وغيرها من المؤسسات المتخصصة في مواجهة مشاكل التلوث، دورها أكثر، وتزيد ضغوطها على الدول المصنّعة للتلوث كالولايات المتحدة المصدرة لـ 25% من التلوث العالمي، وكالصين على سبيل المثال؟

آفاق: يُطرح السؤال حول الديمقراطية المعاصرة التي عليها أن تبدأ بأخذ رأي العلماء كرأي إلزامي ضمن تشكيل مجلس علمي مرادف لمجلس الشيوخ وغيره من المجالس التمثيلية. فمن هذه الزاوية نرى ان للباحثين دوراً أساسياً في تطوير الثقافة العالمية الحديثة للذكاء الجماعي من خلال ما يعرف بالـ cyber pace. ويجب ان يكرّسوا دورهم العلمي لتطوير الوعي الجماعي لشعوب الكرة الارضية بحيث يصبح تشكيل مجالس علمية ضرورة لتجسيد الديمقراطية، حيث تقوم هذه المجالس بلعب دور فعلي في التوجيه السياسي للدول والاتحادات والتنظيمات لمعرفتها الفعلية بأخطار التطور التكنولوجي الذي يرتبط نجاح تأثيره بمدى الحفاظ على الانسان، ووضع حد للانسان الاستهلاكي مقابل الانسان المؤمن بالطبيعة، وذلك باعطاء محركات جديدة للتطور الثقافي العلمي الجماعي للشعوب.

من هنا يفهم ان البشرية يجب ان تتوجه فعلا نحو تحديد اولوياتها الانتاجية من زاوية بيئية تحمي الطبيعة كمفهوم عالمي، وبدورها تحمي الانسان كوحدة فكرية في دور التطور، وكوحدة غرائزية في طور التعقلن، وآخذة في تحديد هويتها الوجودية من جديد. كما يجب على شعوب منطقة الشرق الاوسط أن تنتبه الى خطر ارتفاع منسوب المياه في البحر المتوسط خلال الخمسين سنة المقابلة. والحال إذا غرقت سواحل الكثير من الدول، فهل سيكون من منتصر؟

خلاصة: أخيراً إذا استطعنا القول إن التطور بحد ذاته، كبعد فلسفي وعلمي بحت لمعرفة أسرار الكون وسر وجود الإنسان، يطرح تساؤلات حول تأثيره على الانسان والطبيعة معاً، فكيف سيكون التطور كمفهوم اقتصادي لسيطرة الشعوب على بعضها بالصناعات التكنولوجية والعسكية والطوقية مؤثراً على مفهوم الانسان مع الطبيعة كوحدة غير قابلة لانفصال؟ لذلك حين نقول: إذا كان «الجسم السليم في البيئة السليمة» فمتى ستخرج الشعوب على مختلف أجناسها وعقائدها من دائرة الصراعات الإيديولوجية والمصالح الاقتصادية الضيقة وتتوجه نحو مجتمع يعنى بالشخص كإنسان وليس كسلعة مادية ما تجسده العولمة بالمفهوم الحديث؟ حينئذ فقط تكون شعوبنا قد توجهت نحو مجتمع أو قرية صغيرة أكثر اهتماماً بالبيئة، وأكثر حرصاً على عولمة مؤنسنة إن لم نقل أكثر إنسانية، كما حلم بها بيار تييار دو شاردان في كتابه «الظاهرة الإنسانية».

* كاتب لبناني