لبنان أمام حوار ملتبس.. وممانعة كاذبة

TT

يُقال لنا إن لبنان على أبواب «صيف حار»!

هذا الكلام مصدره الدوائر السياسية التي تدّعي المعرفة... لا الأرصاد الجوية.

وبغض النظر عما إذا كانت «الحرارة» السياسية والأمنية ستسجَّل محلياً فقط أم ستتمدد في أنحاء أخرى من منطقة الشرق الأوسط. فالحراك الراهن، الذي يبدو عشوائياً بعض الشيء، ينمّ عن شيء ما يحضّر للمنطقة وفيها... مع تسارع العد التنازلي لرئاسة جورج بوش «الابن» في البيت الأبيض وإعداد الحزبين الديمقراطي والجمهوري عدّتيهما لمعركة نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.

لا جهة معنية تستطيع الادعاء بأنها مطمئنة ومرتاحة لما يمكن أن تتجه أو تنتهي إليه الأمور. والسبب هو أن أحداً لا يستطيع ضمان التفاصيل. فالأزمات الكبرى، ولاسيما إذا كان لها بُعد عسكري، قد تخرج عن نطاق السيطرة... وهو ما يحصل في الغالب.

اليوم يشكل لبنان، بلا شك، ساحة تصفية حساباتٍ مثالية لكل اللاعبين الذين يفضلّون الإبقاء على ساحاتهم الداخلية بعيدة عن عوامل التفجّر ما أمكنهم ذلك.

لماذا غدا لبنان ساحة تصفية حسابات؟... لسببين داخلي وخارجي، أولّهما الانقسام الوطني الحاد الذي يشجّع أياً كان على التدخل والعبث، وثانيهما وجود أكثر من قوة إقليمية تتعامل معه منذ فترة طويلة على أنه «مكانياً» كيان مصطنع تسهل المقايضة عليه وبه في أي صفقة أكبر منه، و«زمانياً» على أنه قنبلة موقوتة... يربح كل من «يضبط» بذكاء موعد انفجارها لإلحاق أكبر ضرر بخصومه الإقليميين.

إزاء هذا الواقع يظهر أن اللبنانيين، الذين أخفقت أفضل مستويات التعليم والثقافة في العالم العربي في إخراجهم من قوقعتي العشائرية الطائفية والنكايات الكيدية، إما راضون بنصيبهم... أو عاجزون عن إدراك عمق مأساتهم. ولا أدلّ على عمق هذه المأساة من الطابع الكيدي الإلغائي الذي يجسّد حالة الاستقطاب السياسي الحالي في البلاد.

هنا يجب التوقف عند الدور الغريب الذي يلعبه النائب ميشال عون في تغييب كل المعالم ـ المفترض أنها جلية ـ، لصراع سياسي ـ المفترض أنه بديهي ـ، بين تحالفي الموالاة والمعارضة. فالتحالف الأول يضم جماعات وجدت قواسم مشتركة كثيرة في ما بينها ضد تجاوزات المرحلة الأخيرة من الهيمنة السورية المطلقة على لبنان، بينما يضم التحالف الثاني جماعات كانت خلال تلك المرحلة الأخيرة المستفيد المباشر من ثمار الهيمنة وتنامي «الدولة الأمنية» وشبكات مصالحها الاستخباراتية.

عون، حسب شعاراته، لم يكن أحد المستفيدين من مرحلة الهيمنة و«الدولة الأمنية»... أللهم إلا بقدر تخطيط القيّمين عليها لتحويله من سياسي فاشل إلى «بطل قومي» و«شهيد» و«قدّيس» ونسخة مسيحية من «المهدي المنتظر»! والحقيقة، أنه إذا كانت تلك هي غايتهم فقد حققوا لحليفهم السرّي نجاحاً لا بأس به، لم يتراجع إلا بعد انكشاف أمره خلال السنة الفائتة.

فقد وفّر عون التغطية المطلوبة لجهود العاملين على ضرب وجود «الدولة» السيدة المستقلة، تحت شتى الذرائع وما يزال. والمشكلة معه رفضه الإقرار بأنه في نهاية المطاف يُستخدم كـ«واجهة» للتعطيل، لأنه عندما يقرّر صاحب القرار الحقيقي في المعارضة العودة إلى لغة الحوار ... يُسحب منه تفويض النطق باسم المعارضة بلا مقدمات. أما صاحب القرار هذا فهو «حزب الله» ومن يمثلهم هذا الحزب من قوى إقليمية لها مشروع أكبر بكثير من لبنان.

اليوم «حزب الله» متحمّس للحوار. وهذا موقف مفهوم لأن الحزب الجيّد التسليح والتمويل، والمصادر لقرار الحرب والسلم، والمتمدّد أبداً في أملاك الدولة، والمستولي على عدد من مرافقها، «سيحاور» شركاءه في الوطن بشروطه ومن موقع قوة... بينما هم عزّل ومتهمون من قِبله بالعمالة لواشنطن وتل أبيب!

ورئيس مجلس النواب نبيه برّي، الذي يتقاسم مع «حزب الله» تمثيل «الشيعية السياسية» في هرم السلطة، هو الذي دعا إلى الحوار من منطلق الانتظار الحليم لحلحلة التأزم الإقليمي الذي يرمي بثقله على لبنان. وكان برّي بحصافته المعهودة قد ردّد مراراً القول إن الأزمة عنوانها «س – س» (أي السعودية وسورية)، وذلك لأنه أذكى من أن ينجرّ إلى كشف واقع الحال اللبناني كما هو... فالأزمة حقاً أقرب إلى «س ـ ش» (السنية السياسية في وجه الشيعية السياسية) منها إلى «س ـ س».

في أي حال، ما يجعل الوضع ملتبساً أن برّي ليس محايداً ـ باعترافه هو ـ وأن أحداً من ساسة لبنان العقلاء لا يستطيع تحمّل وزر الرفض المطلق لفكرة الحوار، بل إن رئيس مجلس النواب رغم سجله التعطيلي الحافل ما زال عند بعض أقطاب الموالاة... الضمانة الوحيدة لعودة بعض الشيعة إلى هويتهم اللبنانية والعربية من «غيبتهم» الإيرانية.

في هذه الأثناء، على «حزب الله» تحديداً، أن يصارح قاعدته أولاً، وباقي اللبنانيين ثانياً، بموقفه من المفاوضات «غير المباشرة» التي تهرول نحوها دمشق براحة غريبة مع ما كان حتى الأمس «العدو الصهيوني الغاصب».

فالكلام المنسوب إلى إيهود أولمرت عن «أننا نعرف ما تريده دمشق، والسوريون يعرفون ما نريده منهم» كلام واضح لا يحتاج إلى منجّمين أو مترجمين. والأوضح هو تكرار إسرائيل أنها تضغط على واشنطن لإقناعها بأهمية بقاء النظام الحالي في دمشق.

مضمون هذا الكلام أن بقاء هذا النظام ـ بعد صفقة ما في الجولان وغير الجولان ـ مطلوب إسرائيلياً. وبناء عليه، في ما يخص شعار «الممانعة»، يجوز القول إن الكرة أضحت في ملعب «حزب الله» وعمقه الاستراتيجي إيران. فالهدف الإسرائيلي المعلن، على الأقل، هو إبعاد دمشق عن طهران. وهذا يعني توقف دمشق عن لعب دور قناة الدعم اللوجستي والإعلامي لـ«حزب الله» و«الجهاد الإسلامي» و«حماس».

لهذا نسمع الآن بعض الأصوات الفلسطينية، التي جعجعت طويلاً مصدّقة حكاية «الممانعة»، تبدي حذرها من «سيناريو» المرحلة المقبلة.

إن من أسوأ نقاط الضعف عند بعض الأخوة الفلسطينيين ضعف الذاكرة وسوء اختيار الحلفاء الموثوقين. ورجائي المخلص ألا يكتشفوا متأخرين كيف جرى استغلالهم مجدداً، كما هو جار استغلال اللبنانيين أيضاً، في صفقة تحسين شروطٍ تفاوضية سيدفعون ثمنها باهظاً.