من هانوي إلى بغداد

TT

شيء غريب ومثير يحدث ويتكون في الثقافة الشعبية بالولايات المتحدة الامريكية. إنها الحالة العراقية، ولشرح هذه المسألة لابد من العودة للذاكرة، الى حقبة الستينات الميلادية من القرن الماضي، حين كانت أمريكا تخوض حربا خاسرة بلا هدف في الهند الصينية وتحديدا في فيتنام . كان جنودها يخسرون أرواحهم بالآلاف ومن يعود منهم يعود بالعاهات الجسدية والعلل النفسية الحادة. وانتقل هذا المشهد البائس الحزين الى الثقافة الشعبية العامة، فصدرت مجموعة غير بسيطة من الكتب السياسية الهامة، ونشرت الروايات الأكثر مبيعا، وكذلك قدمت أسطوانات غنائية تتنقل بين الوطنية والحزينة، وطبعا لم تكد تمضي سوى مدة قليلة حتى تناولت السينما والمسرح هذه الحرب بأعمال بقيت حتى الآن حديث النقاد والجمهور فمن بينها أعمال بأهمية «العودة للوطن» أو «صائد الغزلان» أو «القيامة الآن» أو «الرابع من يوليو» أو «الفرقة», حتى العمل المسرحي الموسيقي المبهر «فتاة سيجون». وانتقل هذا الشغف بالحدث الفيتنامي بين الحالة الابداعية والتقليدية ليصل الى عالم الأزياء ودنيا الطهي وأجواء التصميم المنزلي، فيبدأ تيار كامل حيث الحالة الفيتنامية أو الآسيوية تأسر خيال الغربي عموما والأمريكي تحديدا لتتحول الى حالة شجن وذكرى حالمة.

وإلى حد كبير يحصل نفس الشيء الآن فيما يخص الحالة العراقية، فمع الارتفاع المهول لعدد القتلى والجرحى من الجنود الأمريكيين، واطالة مدة تواجدهم واحتلالهم للعراق، يزداد الفضول بهذه البلاد وتلك المنطقة من العالم. والآن هناك موجة غير بسيطة من الكتب والروايات التي تشرح وتحلل تاريخ العراق بنواحيه الدينية والاجتماعية والتاريخية، منها ما هو جاد وآخر ما هو هزلي وسخيف جدا، وكذلك الأمر بالنسبة للأعمال السينمائية والتي هي في معظمها ناقدة جدا لسياسة الاحتلال الأمريكي والقرارات الخاطئة التي تولدت جراء ذلك كله, ولد اهتمام متزايد في العديد من الجوانب «العراقية» الاخرى، فها هي الفنون الفنون التشكيلية والآثار العراقية تحصد أسعارا هائلة في المزادات ومحلات المفروشات المتخصصة، وها هو مطعم عراقي بغدادي متخصص يفتح أبوابه بنجاح كبير في نيويورك. كيف سيكون نتاج هذا الحراك الثقافي؟ على الأغلب ستنتصر إرادة الشعوب ونفسياتها السوية، وما حصل بين أمريكا واليابان وألمانيا وبعد ذلك مع فيتنام مرشح أن يحدث مع العراق بعد رحيل الادارة الامريكية الحالية بحماقة عصابة المحافظين الجدد قارعة طبول الحرب المدمرة. فالشعب الأمريكي حتما أفضل بكثير من إدارته الحالية والرهان عليه بأن يتسبب كل هذا الحراك في إزالة تلك «الخزعبلات» التي كان يروج لها مشعوذو الحروب وثبتت أكاذيبهم بوضوح. من هانوي وصولا لبغداد يثبت أن قارعي طبول الحروب لا مكان لهم، فهم يرحلون ولعنات الضحايا تلاحقهم، ويبقى الخير على الأرض مهما طال الزمان.

[email protected]