هل تنقذ إسرائيل سورية من محكمة الحريري؟!

TT

أسبوع عربي مدهش. الدنيا ربيع. كل الأحبة «سوا.. سوا». بشار وأولمرت وإردغان. كوشنير والمعلم. مشعل وجيمي. الزهار وعمر سليمان. أبو مازن وبوش بن بوش. كوندوليزا والعقال الخليجي... إلا النبيه بن بري حامل أقفال المغارة البرلمانية اللبنانية. بعد تلقيه «توجيهات» بشار في دمشق، بقي في المحطة القطرية وحيدا بلا حبيب أو طبيب. ينتظر ثم ينتظر «فيزا» الزيارة السعودية.

فهمت جماعة 14 آذار مغزى رفض استقباله، فرفضت الحوار معه. لولا مسارعة جنبلاط لمواساته، لبقي بري وحده في المغارة، يندب حظه بعد تفويض بشار له بمواصلة تمييع الحل، وسحبه التفويض من العماد عون إثر تمرد ميشيل المر عليه.

ما الحل، إذن، في لبنان؟ لا حل إلا بحل المحكمة. لماذا التعب واللف والدوران مع دمشق؟ لا فائدة. كلها استنفدت غرضها. تبددت على باب دمشق.

ماذا تريد العاصمة السورية؟ بات الغرض واضحاً وضوح الشمس: لا ترئيس وتعميد للعماد ميشال سليمان في مغارة بري النيابية، إلا بإبعاد شبح محكمة الحريري عن النظام في دمشق. هاتوا ضمانات بعدم مس النظام بالاتهام وخذوا رئيسا للجمهورية. في غياب رئيس «مضمون»، سوف يبقى لبنان بلا رئيس، وبلا استقرار. رئيس غير مضمون قد يضفي الشرعية الدستورية والسيادية على محكمة دولية تحاكم المتهمين بقتل الحريري.

في رؤية دمشق، الحل المطلوب هو محكمة تحاكم أشخاصاً، ولا تحاكم نظاماً. حل «على الطريقة الليبية» كما سبق أن قلت.

حل يعفي القيادة ويقاضي المخابراتيين الصغار. عندما يشير الشرع والمعلم إلى السعودية، فهما يعنيان أن السعودية، بما تملك من نفوذ ومصداقية في لبنان والعالم، تستطيع ان تنقذ نظام دمشق من الوقوف في قفص الاتهام، كما وقف يوما الصربي سلوبودان ميلوزيفتش.الرئيس بشار ينفي الاتهام: «ليس من أخلاقي أن آمر بالقتل». يضيف إذا كان هناك من سوري آخر (متورط في قتل الحريري) فهذه «خيانة». هذا يعني أن يُحاكم الخائن، وربما يمكن ان يتم تسليمه إلى المحكمة الدولية. المشكلة أن سلسلة الاغتيالات التي تلت اغتيال الحريري وتناولت شخصيات لبنانية معروفة بعدائها لدمشق، أثارت مزيدا من الريبة والشكوك في النظام السوري. تقنية الاغتيال التي لم تترك أثراً مفيدا للتحقيق تركت المجال واسعا للإشارة بالأصابع إلى المصدر المشتبه به.

قبل قضية الحريري، لم يسبق للسعودية أن دخلت في خصومة مباشرة مع نظام عربي. السعودية، في مصداقيتها العربية والدولية، لا تستطيع السعودية انقاذ نظام دمشق من المحكمة، كما يظن ويريد مَنْ يحكمون دمشق. الظروف الاقليمية والدولية تغيرت. غاب الاتحاد السوفيتي الذي كان يشكل مظلة حامية لأنظمة عربية وغير عربية تورطت في الإرهاب. إذا كان القذافي، في ذكائه الفطري، قادراً على تهجئة اللوحة الدولية المتغيرة ولائحة حقوق الانسان، فهناك أنظمة وأجهزتها الأمنية جاهلة باللغة الدولية. صدام لم يعرف كيف يقنع أميركا بأنه استغنى عن مشروعه النووي، قبل عشر سنوات من إسقاط نظامه. لا شك أن بشار لا يملك حنكة أبيه الراحل. كان الرئيس حافظ حريصا على عدم إغضاب السعودية، بل أقام محورا افتراضيا مع مصر والسعودية، في الوقت الذي كان يختلف معهما في تفاصيل العناوين السياسية. من هنا، كان العاهل السعودي عبد الله بن عبد العزيز حريصاً على السعي المتواصل لمصالحة نظامي البعث في سورية والعراق، إيمانا منه بأن الخصومية الشخصية والرسمية بين النظامين اللدودين قد ألحقت ضرراً قومياً فادحاً، على مدى يزيد عن ثلاثين عاما، بالمصلحة القومية العليا.

بشار عاتب على السعودية: كيف قام عبد الله بهذا الدور القومي وليا للعهد، ولا ينقذ نظام دمشق وهو عاهل يملك القرار في سدة القيادة؟ بعض العتب إثم، كما هو بعض الظن. القيادة السعودية، منذ فهد بن عبد العزيز إلى أخيه عبد الله، لم تكن تريد لسورية التورط في لبنان. كان اتفاق الطائف إنقاذاً للبنان، بقدر ما هو إنقاذ مفترض لسورية.

الظروف الدولية والاقليمية التي كانت سائدة غضت الطرف عن الاغتيالات اللبنانية المروِّعة في ظل الأمن السوري في لبنان. قتل رئيسان للجمهورية. اغتيل مفتي الجمهورية... كانت تقنية الاغتيال متشابهة: استئصال جماعي للموكب أو للمكان بلا رحمة للأبرياء المارين أو الحاضرين، الأمر الذي يوحي بأن الجهة المدبرة والمنفذة واحدة.

كصحافي ومراقب سياسي، لي رأي شخصي في الراحل الحريري شخصا وسياسة. لكن لا بد من الاعتراف بأن الحريري بلغ درجة من الاحترام الدولي له تتجاوز مكانته الكبيرة أيضا كزعيم ومسؤول لبناني. الجهة التي اغتالته لم تقدر، لجهلها الفاضح بالمتغيرات المذكورة، النتائج السياسية والانسانية المترتبة عن إزاحته القسرية من المشهد السياسي.

من البديهي أن يستمر غضب القيادة السعودية وتأثرها لما حلّ بالرجل الذي كان دوره في لبنان يتمتع بثقة السعودية. كانت الرياض تعتبر الحريري ركيزة كبيرة لاستقرار لبنان، وتُمَحِّضُهُ رعايتها له كرجل عصامي بدأ حياته العملية، ككثير من اللبنانيين، في كَنَف ورحابة الأرض المقدسة. هل الصلح مع اسرائيل يستطيع إنقاذ نظام دمشق من محكمة الحريري؟!

المغامرة السورية كبيرة. هناك الآن تحول نسبي لدى الرأي العام السوري. هناك استعداد عام للقبول بسلام مع اسرائيل إذا كان انسحابها كليا من الجولان، بل ربما هناك تسامح برؤية سفير اسرائيلي في دمشق. لكن السوريين غير مستعدين لرؤية بشار يستجدي الصلح في القدس المحتلة، كما فعل السادات قبل ثلاثين سنة. ربما يقبلون برؤيته مع أولمرت في أنقرة أو استنبول في ضيافة النظام التركي «المتأسلم»، ويأملون في أن يكون ذكاؤه في المقابل مع أولمرت، على قدر طوله.

عوائق السلام كبيرة. إذا كان بشار جادّا وقادرا، فأولمرت ضعيف شخصا وحكومة. الهدوء السوري على جبهة الجولان لمدة عقود أثار طمع الاسرائيليين بالبقاء على الهضبة، وضمان تدفق مياه «قصر الشتاء» في بحيرة طبريا ونهر الأردن. هناك انقسام اسرائيلي كبير حول الانسحاب من الجولان قد لا يستطيع أولمرت تجاهله، لاسيما إذا رُبط الانسحاب باستفتاء مجتمع رُبِّي على كراهية العرب وبالذات السوريين، ولُقِنَّ ان الجولان ضروري لأمن وسياحة الاسرائيليين. بشار يعرف ان المحادثات مع اسرائيل لن تكون جادة، طالما ان بوش يسكن البيت الأبيض. قد تكون أشعار الغزل التي يطلقها الاسرائيليون عن السوريين هي لاثارة غيرة الفلسطينيين، ولانتزاع مزيد من تنازلات عباس الذي عاد من زيارته «البوشية» عاقد الحاجبين والجبين.

للتغطية على فتح كارتر واردغان ملف السلام على المسار السوري، فقد عمدت ادارة بوش الى فتح ملف سورية النووي مجددا. دوليا، تستطيع إدارة بوش تصوير سورية كدولة «مارقة» غير بعيدة عن مجلس إيران في «محور الشر». لكن لسوء حظ بوش، فاتهام سورية بـ«النووية» يلقى ترحيبا وتأييدا للنظام السوري، لدى رأي عام عربي، نتيجة لاحتكار اسرائيل السلاح النووي كسيف رادع مسلط على رؤوس العرب. لتهدئة روع إيران، طار وليد المعلم الى طهران «لتبريد» المخاوف الايرانية من سلام مع اسرائيل قد تصنعه شريكتها السورية، المغامرة السورية سوف تقلب الحسابات الايرانية التي بَنَتْ على الجسر السوري خطط اختراق المنطقة، وصولاً الى الفلسطينيين واللبنانيين. سوف تضيع جهود ثلاثين سنة في «تشييع» السوريين عبر عشرات الحوزات (المدارس الدينية) التي نبتت كالفطر في بلد عربي خال من الشيعة، وأهله غير معروفين بحبهم للايرانيين، بل ما هو مصير مليارات الدولارات التي تشتري بها ايران مشاريع القطاعين العام والخاص، بما في ذلك «هدية» المازوت المجانية للسوريين؟ مخاوف حماس من جنس مخاوف ايران. ايحاءات الهدنة والقبول بمشروع الدولة الفلسطينية التي حمَّلَها مشعل «للحماسي» كارتر، تعبر عن قلق «الحماسيين» من تقلّب نظام يستضيفهم، لكن ليس مضمونا ثباته وإخلاصه. فغريزة البقاء لدى هذا النظام أقوى من وفائه لتحالفاته.

هل تملك اسرائيل تخفيف حماسة بوش وساركوزي للمحكمة الدولية؟ قلت ان المناورة السورية كبيرة. قد يكتشف الأسد ان الصلح مع اسرائيل مجرد سلام في العناوين، قد تحبطه الشروط الاسرائيلية في التفاصيل، أو قد يغرق في مياه بحيرة طبريا التي غرق فيها سلام الأب قبل ثماني سنين.