هل تختلط الأوراق من جديد؟

TT

جاء في آخر الأنباء أن رئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود أولمرت، قد أرسل رسالة غير مباشرة إلى الرئيس السوري بشار الأسد، مفادها أن إسرائيل مستعدة لانسحاب كلي من هضبة الجولان المحتلة، في مقابل سلام كلي مع سوريا. إن صحت أخبار هذه الصفقة، أي الأرض مقابل السلام، وتمت الموافقة عليها من قِبل الطرفين المعنيين، فإنها سوف تخلط أوراق المنطقة من جديد، وتعيد صياغة المعادلات، في منطقة أوراقها مبعثرة من الأساس، ومعادلاتها مقلوبة في الصميم. أخبار غير سارة بطبيعة الحال لكل من إيران وحزب الله في لبنان، فذلك يعني، فيما لو تمت الصفقة، أن التحالف «الاستراتيجي» بين سوريا وإيران وحزب الله مُهدد بهذا الشكل أو ذاك، وهو التحالف الذي تعول عليه إيران وحزب الله كثيراً، ولكن، وفي النهاية، فإن السياسة لا تعرف الصديق الدائم أو العدو الدائم، مصلحة الدولة فوق كل اعتبار، وخاصة عندما تكون مصلحة هذه الدولة هي مصلحة نظام يُعاني من العزلة الإقليمية والدولية، ولديه من المشاكل في الداخل والخارج ما يدفعه إلى التشبث بأي مخرج يعيد الحياة إلى عروقه، كما هو الوضع في الحالة السورية ذات الملفات المفتوحة الكثيرة. وأعتقد أن مثل هذه المبادرة الإسرائيلية، فيما لو صحت الأنباء، تحمل الكثير من المصداقية، ففي ظني أن أولمرت لا يناور هنا، كما يعتقد الكثير من المراقبين العرب، ففي التحليل الأخير، فإن لتل أبيب من المنافع والمصالح في مثل هذه الصفقة، لو تحققت، الشيء الكثير، وكذلك هو الحال بالنسبة لدمشق، فهناك مصلحة مشتركة في عقد مثل هذه الصفقة، وهذا ما يدفع إلى القول بصحة الأنباء الواردة عنها، حتى لو نفت هذه العاصمة أو تلك صحة الأنباء.

فمن الناحية الإسرائيلية، فإن التحالف السوري الإيراني، ورعاية هذا التحالف لحلفائه الأصغر في لبنان وغزة، أو بيادقه على رقعة الشطرنج الشرق أوسطية، مزعج لإسرائيل وأمنها أكثر من احتفاظها بأرض محتلة لم تُطلق فيها رصاصة واحدة، رغم كل هذا الاضطراب في المنطقة، منذ ما يقارب ثلاثة عقود ونصف العقد، كما أن هذه الأرض فقدت كثيراً من أهميتها الاستراتيجية، وقيمتها العسكرية بالنسبة للدولة الإسرائيلية، بعد أكثر من أربعين عاماً من الاحتلال، تطورت فيه التقنية العسكرية كثيراً، بحيث غيرت كثيراً من معادلات القوة ومعاييرها في عالم اليوم. إتمام مثل هذه الصفقة، فيما لو تمت، سوف يطلق رصاصة قاتلة على هذا التحالف السوري الإيراني في صميمه، وتفقد إيران بذلك عمقها الاستراتيجي، أو لنقل مجالها الحيوي السياسي، الممتد من طهران حتى بيروت، مروراً ببغداد ودمشق، وهو العمق الذي تعول عليه إيران في بسط نفوذها في المنطقة من ناحية، وإحاطة منطقة الخليج بهلال قوة يدعم الطموح الإيراني في أن تكون سيدة الخليج الوحيدة، وهو ذات ما كان يحاول أن يفعله صدام حسين عندما أنشأ مجلس التعاون العربي في ثمانينات القرن الماضي، فقد تغيرت الأوضاع والبيادق والوسائل، ولكن اللعبة في النهاية بقيت واحدة.

فنجاح المبادرة الإسرائيلية تجاه سوريا يعني، فيما يعني، أن حزب الله لن يعود بذات القوة التي كانها، بعد فقدانه الرعاية السورية، التي هي الدعامة اللوجستية للرعاية الإيرانية، وبذلك يمكن احتوائه ليعود حزباً مدنياً في الساحة اللبنانية، بعد قصقصة أجنحته المالية والعسكرية إلى حد كبير، ويصبح موقفه التفاوضي مع بقية الأحزاب والتيارات اللبنانية أضعف. كما أن وتيرة العنف سوف تتناقص في العراق، بعد أن تتحول سوريا إلى دولة «معتدلة»، تضبط حدودها مع العراق بقوة ومصداقية حقيقية هذه المرة، وتحارب تجنيد المقاتلين في الداخل السوري، ومن ثم دفعهم إلى العمق العراقي. فلسوريا، في وضعها الحالي، وكذلك إيران، مصلحة كبيرة في بقاء الأوضاع في العراق مضطربة وغير مستقرة، لأن استقرار العراق، أو حتى الهدوء النسبي فيه، معناه عدم استقرار سوريا ونظامها السياسي الحالي، وكذلك شل اليد الإيرانية وميليشياتها في العراق، وذلك وفق قانون اللعبة الصفريةZero Sum Game : ما هو مكسب لك هو خسارة لي، والعكس صحيح. ولكن إتمام الصفقة، وتحول سوريا من دولة «مارقة» إلى دولة «معتدلة»، بحيث يُصبح من مصلحتها أن تهدأ الأوضاع في العراق، قد يحول سوريا من محاربة «للمشروع الأميركي الإسرائيلي» في المنطقة، إلى محاربة «للمشروع الإيراني» في المنطقة، بل وربما تغيرت لغة الخطاب السياسي السوري، ويصبح الحليف القديم، عدواً «فارسياً» أو «مجوسياً»، كما كان الخطاب السياسي العراقي في عهد صدام حسين، ولا غرابة هنا، فلا مستحيل في السياسة وتحولاتها، كما أن الجميع في النهاية بعث.

ومن الناحية السورية، فإن «إعتدال» سوريا، الذي هو نتيجة حتمية لقبولها بالصفقة، سوف يحل لها الكثير من المشاكل العالقة، وسوف يقفل لها ملفات مفتوحة كثيرة، تهدد أمن واستقرار النظام فيها. فملف اغتيال الرئيس الحريري مثلاً، واقتراب موعد المحكمة الدولية في هذا المجال، التي تهدد بإطاحة رؤوس سورية بارزة، غير تلك التي صُفيت في ظروف غامضة، وربما ينتهي باطاحة ذات النظام، سوف يغلق رويداً رويداً إذا تمت الصفقة، وسوف يكون أول المؤيدين لدفنه، ورفع شعار «الصفحة الجديدة»، «وما قد فات قد فات»، «وكان فعل ماض ما نسيبه في حاله»، على رأي ليلى مراد، وغيرها من شعارات، هم أولئك الذين يرفعون قميص عثمان اليوم ملطخاً بدمائه، فليس المهم في النهاية عثمان وقميصه، بقدر ما أن المهم هو أين تكمن المصلحة، وما هي الورقة الرابحة في اللعبة، فالسياسة، ونكرر هنا، لا خاتمة لها، ولا تعرف المستحيل، ولا تعرف الثبات، وليس لها عدو أو صديق، وها نحن نرى اليوم كيف تقوم الولايات المتحدة بفتح ملف سوري جديد، وهو التعاون النووي بينها وبين كوريا الشمالية، مما يُذكرنا بملف أسلحة الدمار الشامل بالنسبة لعراق صدام، قبيل الغزو وإسقاط النظام.

من ناحية أخرى، ففي ظني أن الرئيس بشار الأسد يبحث اليوم عن إنجاز مميز يتم في عهده، وهو الذي يبحث عن شرعية انجاز منذ أن خلف أباه، إذ لم تعد شرعية الخلافة، في جمهورية اشتراكية، كافية لمنحه القبول في الشام وعالم العرب. إعادة الجولان كاملة، وهو الشيء الذي لم يستطعه أبوه منذ أن فقدها بعد حرب حزيران/يونيو عام 1967، تمثل له إنجازاً يستطيع من خلاله فرض شرعية جديدة يستقل فيها الابن عن الأب، وذلك كما كانت حرب أكتوبر، ومن ثم استعادة سيناء كاملة، هي النقطة التي منحت الرئيس الراحل أنور السادات شرعية منفصلة عن الشرعية الناصرية، وأصبح بعدها حر الإرادة، مطلق اليدين. الحاكم في سوريا اليوم ليس بشاراً بقدر ما أنه «الحرس القديم»، ولا يمكن الاطاحة بمثل هذا الحرس إلا بالاستناد إلى شرعية جديدة ومستقلة، لا علاقة لها بتلك الشرعية التي يستند إليها هذا الحرس، وهي شرعية الأب الحاضر الغائب. بإيجاز العبارة، إذا كان الرئيس بشار الأسد يسعى إلى إطلاق يديه في الشأن السوري، فقتل الأب، وفق التعبير الفرويدي، هو الخطوة الأولى، فالأب أضاع الجولان، والابن يعيدها.

ولكن المشكلة السورية، أو لنقل مشكلة النظام السوري وبشار الأسد تحديداً، هي مسألة الشرعية الثورية، أو شرعية المقاومة، التي شكلت الشرعية العربية للنظام السوري، ولا أقول السورية، منذ أن انتهت المفاوضات السورية الإسرائيلية عام 2000، والخلاف الجزئي بين البلدين حول تركة رابين. مات رابين، ومن بعده الأسد، ولم يبق للأسد الصغير سوى التشبث بشرعية ثورية تجاوزها الأسد الكبير في أيامه الأخيرة، ولكن كارزمية الأسد الكبير لا يُمكن أن يرثها الأسد الصغير، ومن هنا كانت العودة إلى مرحلة ما قبل الأسد الكبير ورابين. أن تنشطر العلاقة «الاستراتيجية» بين دمشق وطهران، قضية غير مهمة، فالجميع يعلم أن مصلحة الدولة فوق كل اعتبار. أن «يُدبر» حزب الله أموره في لبنان، فتلك قضية بسيطة، فـ«مصالح الأمة» تقتضي تغييراً في الوسائل ولكن ليس في الغايات، كما هو الحال في الصين حين أُلبست الرأسمالية رداءً شيوعياً. ولكن كيف يمكن تبرير التحول من الشرعية الثورية، وشرعية المقاومة، إلى الشرعية السياسية الواقعية، بدون فقدان الشرعية جملة وتفصيلاً؟..هنا تكمن معضلة بشار الأسد، بل لنقل القيادة السورية التي يتراءى لها حبل مشنقة صدام، وهو الذي كان يُعد العدة لتحويل العراق إلى مملكة وراثية حتى يُنفخ في الصور..سؤال لا أستطيع التكهن في كيفية إجابته، ولكن..السياسة لا تعرف المُستحيل.

لو كنت من متخذي القرار السياسي الإسرائيلي، لدفعت بالمبادرة قدماً، ولتذهب خطط بوش الساذجة إلى الجحيم، فمنافعها بالنسبة لإسرائيل أكبر بكثير من الاحتفاظ بقطعة أرض لم تعد لها أهمية كبيرة بالنسبة لكيان الدولة، بل إن التخلي عنها سوف يمنحها قبولاً عربياً أكبر، ويعزز من قبولها الدولي. ولو كنت من صانعي القرار السياسي السوري، لقبلت بالمبادرة فوراً، ولتذهب مخططات أحمدي نجاد إلى الجحيم، فبقاء النظام السياسي الحاكم على المحك، وكما يقول المثل الشعبي: «يا روح ما بعدك روح». أنا حقيقة لا أحب إسرائيل، ولا أحب النظام الحاكم في دمشق، ولكن القضايا العاطفية يجب ألا تمنعنا من التفكير بعقل عملي حين تكون المصلحة العامة على المحك. قد «نزغرد» حين يموت لنا «شهيد»، وقد يزغردون حين يموت لهم «شهيد»، ولكن ذلك لا يعني أن الموت لم يحل في الديار.. فلنحب من نشاء، ولنكره من نشاء، ولكن حين تكون الحياة على المحك، يجب عندها التفكير بعقل وعمق، وطابت لكم الحياة..