محمول ودجال وحريق

TT

الغردقة منتجع هادئ وجميل على البحر الأحمر في جنوب مصر، وفي صفحة الحوادث التي تمثل أعلى درجات المصداقية في مطبوعاتنا قرأنا عن اثنين من العمال سكبا بنزينا على صديق ثالث وأشعلا فيه النار، ليس لأسباب سياسية أو دينية أو وطنية بل لأسباب دجلية اتصالاتية إن جاز الوصف، حيث فقد أحد العمال الأصدقاء جهازه المحمول، فشك هو وزميله في صديقهما الثالث، غير أنه أنكر بشدة، ولكي يقطعا الشك باليقين ذهبا إلى جهة الاختصاص الوحيدة التي يعرفانها ويثقان في علمها وهو شخص وصفه الخبر بأنه يعمل دجالا، وهي الصفة التي أؤكد أنهما لا يوافقان عليها، بالتأكيد هما لجآ إليه لأنهما على يقين بأنه ليس دجالا وأنه بالفعل قادر على معرفة ما خفي عن الناس وبذلك يكون المرجعية الوحيدة في مثل هذه الأمور، هكذا نرى أنه عندما تضيع منا أداة تمثل أعلى درجات تكنولوجيا الاتصال فلا بد أن نلجأ لاستعادتها إلى بدايات المعرفة البشرية، وهي مرحلة التفكير السحري، قاطعين بذلك آلاف السنين إلى الوراء بسرعة مدهشة ومبتعدين بنفس السرعة عما وصل إليه الإنسان من علوم أمنية معاصرة قادرة في معظم الأحوال على معرفة الحقيقة وهي هنا من سرق جهاز المحمول؟ لست أعرف طبيعة الحوار الذي دار بين الدجال والعاملين، ولا الوسائل الفكرية التي لجأ إليها للوصول بها إلى أن السارق هو زميلهما الثالث، هل ضرب لهما الودع على الرمال، هل قرأ الفنجان، هل فتح أوراق الكوتشينة؟

لم يذكر الخبر ذلك في تفاصيله، المهم أنه أوصلهما إلى درجة اليقين التي كانا في حاجة إليها، وهي بالتأكيد أعلى درجا اليقين الذي لا يأتيه الشك من أي جانب، وبناء عليه كان لا بد أن يصدرا الحكم على المتهم الذي أثبت الدجال إدانته وهو الموت حرقا، وهي عقوبة كما نعرف جميعا لا وجود لها في كل المراجع القانونية المعاصرة، ولعل آخر الإشارات إليها كانت في العصور الوسطى في أوروبا وكانت تطبق في أحوال خاصة للغاية ومن بينها السحر والدجل. قبل ذلك بشهور قامت رابطة المشجعين لأحد النوادي الكبيرة بسكب البنزين أيضا على أحد مشجعي النادي المنافس لهم الذي كان محظوظا لأن إصاباته لم تكن مميتة، غير أنه لم يثبت في تحقيقات الشرطة والنيابة أن دجالا أفتى للحارقين بأن المحروق هو السبب الأكيد لهزائم ناديهم المستمرة. ولما كانت الفكرة لا تنشأ فجأة في عقل الجماهير الغاضبة، فلا بد أن شخصا بينهم سيكون هو أول من يصيح: تعالوا نولّع فيه.. وعلى الفور ستزأر الجماهير: أيوااااا.. نولّع فيه.

هذا الشخص ـ الدجال الجماهيري البديل ـ لا يأتي بالفكرة من عدم، بل هو على يقين من وجودها أصلا في عقولهم، هم يريدون إشعال النيران في عدوهم، غير أنهم في حاجة لمن يعلن الفكرة علنا نيابة عنهم، نحن هنا بإزاء فكرة نفي الآخر في أوضح صورة لها، ذلك الآخر الذي لا يشجع نادينا، والذي هو ـ حتما ـ السبب في هزائمنا.. ذلك الآخر الذي سرق محمولنا وعزلنا عن العالم وعزل العالم عنا، ذلك الآخر الذي هو السبب في كل مشاكلنا وتعاستنا ومآسينا القومية والكروية.

أعود إلى التفكير في ما حدث في الغردقة، هل فكرة حرق الآخر لم يكن لها وجود في عقلي العاملين قبل أن يدين الدجال زميلهما الثالث، أم أنها كانت راقدة تنتظر لحظة الاستيقاظ والتحول لفعل؟

لا تنتظر منى إجابة فالسؤال موجه إليك.. في دراستي للعقل البشرى لا أهتم كثيرا بما يفعله أصحاب العقول المتزنة بفرض أن لهم وجودا، هم في رأيي لا يعبرون بصدق عن الجماعة، أي أنهم ليسوا مرآة لها، أصحاب العقول المختلة فقط هم من ينبهون البشر إلى الأخطار الزاحفة على العقل الجمعي لمجتمع ما، وعناصر الحادث في الغردقة هي نفسها عناصره في منهج التفكير عند الجميع بوجه عام، هناك شيء ضائع ربما يكون جهاز محمول وربما أرضا ضائعة مثل الجولان وفلسطين وربما قضية ضائعة مثل الوحدة العربية، أو المشروع القومي العربي، أو السلام في الشرق الأوسط أو الأمن في العراق، وهنا يظهر دور المفكر الدجال، ستقرأ له مقالا أو كتابا أو تشاهد له رسالة صوتية أرسلها من مخبئه، أو تستمع لفتاواه في برنامج أو تنسحر بخطبته القوية في مناسبة وطنية، وفي كل الأحوال هو يثبت لك أن ما تفكر فيه صحيح، وهو بالتحديد إشعال النار في نفسك وفي الآخرين. ستعثر بالصدفة على الوحدة العربية مع بلد آخر عزيز لديك فتسعد بها، ثم تضيع منك فلا تسأل نفسك من أضاعها ولماذا، أو لعلك سألت وأعيتك الإجابة، فتذهب إلى الدجالين فيفتحون لك المندل ويقولون لك ما تريد سماعه: السبب في ضياع الوحدة هم أعداء الأمة العربية. هكذا يتسع أمامك الوقت بطول الزمن لإشعال النيران في أعداء الأمة وفي نفسك بالطبع. سيضيع منك السلام فيظهر على الفور شخص على الشاشة ليسألك ذلك السؤال الاستنكاري الشهير: سلام مع مين.. هي إسرائيل وأمريكا والاتحاد الأوروبي عاوزين سلام؟

بالطبع حضرتك لن تبحث عن السلام، لأنه من المستحيل أن تصدق أن أمريكا وإسرائيل وأوروبا تريد السلام، ففي حالة تصديقك لذلك تصدق عليك الغفلة وربما الخيانة أيضا، ومع ذلك فلا بأس من أن تطلب منهم مساعدتك في الحصول على السلام، هم كاذبون فلماذا لا تبادلهم كذبا بكذب، على الأقل لكي تبرئ نفسك من تلك التهمة الموجهة ضدك وهي أنك لا تريد السلام، وعندما تضيع منك الديمقراطية فلا بد أن العدو سرقها منك وأنت نائم، ليس هذا فقط، لا بد أن يظهر من يقول لك: أنت بتصدق برضه إن أمريكا فيها ديمقراطية والا إنجلترا؟

هي كما ترى فكرة مريحة تخلصك من عبء التفكير والسعي لتحقيقها، لا يوجد سلام ولا توجد ديمقراطية لا عندنا ولا عند الآخرين فلا داعي لأن تتعب نفسك بحثا عنهما، ما رأيك في أن تشعل فيهما وفي نفسك النار؟