خواطر عن مضائق تيران

TT

في تجمع عائلي بهيج قضينا أياماً في أحد المنتجعات الجميلة المتناثرة على سواحل شرم الشيخ جنوب شبه جزيرة سيناء.

أقيمت تلك المنتجعات في بيئة طبيعية ليست رحيمة بالانسان، إن لم تكن معادية له: صحراء لا يعايشها إنس ولا جان، وحرارة توقد الصخور، وجفاف يخنق الحناجر وجبال داكنة سوداء تشيع الوحشة والكآبة في النفس. ومع ذلك، استطاعت يد الانسان أن تجعل من بعض تلك المنتجعات نزلا فيها من أسباب الراحة والجمال ما لا يدع لطالب من مزيد..

كان يكفي أن يتوفر مولد للطاقة الكهربائية، ومحطة لتحلية مياه البحر كي تتحول قطعة من الصحراء لمنزل من منازل الجنة أو هكذا يخيل اليك. ولما كانت هذه أول زيارة لنا لمرابع هذه المنتجعات، فقد كنا مأخوذين بجمال المنتجع الذي أقمنا فيه: تصميم هندسي ثري في اتساعاته، مريح في الخلود اليه. اذا جلست في أي زاوية من زواياه أمسكت بالمكان الذي أنت فيه حتى لا يأتي مقيم آخر ويأخذه منك، أعمدة شاهقة الارتفاع، أنيقة الاستدارة والألوان، تحمل أسقفا تمتد عرضا وطولا كأنك في قصر من قصور القياصرة في عهود الرومان. وفوق هذا وذاك حدائق غناء: مساحات من النجيل الاخضر الجميل على امتداد البصر، وعدد لا يحصى من أشجار النخيل، باسقة الارتفاع، تحيط بمساكن النزلاء كأنه موكب من مواكب الافراح.. والزهور النضرة ذات الالوان الزاهية المفرحة تقابلك كيفما اتجهت. تحييك وتكاد تبتسم اليك. وكأني بالصحراء التي قام فيها هذا المنتجع الحالم الجميل تعاتب الكارهين لها والهاربين منها، وتقول لهم: اعطوني ماءً ولكم مني ما شئتم من نعم الحياة

**

شرم الشيخ؛ هذه البقعة النائية من صحراء سيناء، والتي حولها الانسان الى مرابع لاستشعار النعمة وحب الحياة أقبل عليها الأوروبيون من كل دار يغترفون المتعة في أجوائها اعترافا ظامئا لا يعرف الارتواء.

شرم الشيخ هذه هي في عين العربي الشاهد الذي لا تشيخ ذاكرته، والشاهد الذي لا يموت. والرمز المثقل بالمعاني عن حقبة من تاريخنا العربي المعاصر ما يزال استرجاعه يثير الكثير من مشاعر الأسى ويدعونا لوقفات من التأمل والحساب. فحيثما توجهت، وأينما كان موقعك في هذه المنتجعات، فأنت في مواجهة مضائق تيران. وجزيرة تيران تكاد تقتحم عليك الفكر والبصر حتى لكأنك لا ترى غيرها ولا تفكر إلا فيها.

في المكان الذي يجتمع فيه النزلاء على الغداء، وكأنه شرفة يحتضنها البحر من كل جانب، يتحدث الكبار بارتياح ويتصايح من حولنا الصغار بسعادة لا يعرفها غير الصغار. ويلفني أنا، صمت عميق وأنا أتأمل هذا التكوين الجبلي الكبير المنغرس في البحر ويكاد يغلق مداخل خليج العقبة والذي اسمه جزيرة تيران.

كان وقتا للبهجة وليس وقتا للصمت والتأمل العميق. فجميع ما حولنا يوحي بحب الحياة وشكر الله ان قدر لنا المجيء لهذا المكان الجميل. الا انه كتب على ابناء جيلي، من المثقفين العرب، ان يظلوا مثقلين بأحمال الانكسارات النفسية التي عاشوها في شبابهم، ولا تنشط ذاكرتهم إلا في استرجاع هذه الانكسارات. فقد كانت لعمق جراحها كأنها الكي بالنار يلتصق بالجسد التصاقا لا ينمحي ولا يزول، كأن ذاكرتنا خلت من كل حدث من أحداث الدنيا ولا تعي أبدا غير هذه الانكسارات. فهي حاضرة في احزان الماضي وحاضرة في شعور الحيرة والضياع في الحاضر وحاضرة ايضا في الخوف مما قد يأتي به المستقبل المجهول..

إن جيلي هو الجيل الذي تفتح وعيه السياسي في اعقاب الحرب العالمية الثانية على بدء الهجمة الاستيطانية الصهيونية الشرسة لالتهام فلسطين، وما اعقبها من قيام دولة اسرائيل وهزيمة الجيوش العربية الغازية ونكبة الارهاب والتهجير التي افرغت المدن العربية في فلسطين من سكانها العرب. كنت في عام 1947 طالبا في كلية الحقوق بجامعة القاهرة وما تزال مكونات هذه النكبة بكل ما احاط بها من اسباب القهر والانكسار، تستيقظ في الذاكرة استيقاظا موحشا مؤلما كل ما مر بنا شاهد من الشواهد عليها. ومضائق تيران شاهد على ما ورثناه عن هذه النكبة من صراعات كنا فيها دائما المحارب المهزوم.. وشاهد على اننا مستضعفون في ارضنا، وان نكبة عام 1948 لم تكن الا ايذانا بنكبات اخرى تلاحقنا خارج فلسطين.

سيل متدفق من الذكريات لا تملك ايقافه وجزيرة تيران، لقربها منك، تكاد تشاركك المسكن الذي تقيم فيها.

**

في الساعة السابعة من صباح يوم الاثنين 29 اكتوبر (تشرين الأول) عام 1956 اذاع راديو كراتشي، حيث كنت اعمل في سفارة بلادي هناك، خبرا نقله عن اذاعة القاهرة؛ مفاده ان القوات الاسرائيلية اجتاحت شبه جزيرة سيناء في اتجاه قناة السويس، وأن الجيش المصري تصدى لها وأبادها. وما ازال اذكر كلمة Annihilated (أباد) التي شدد عليها المذيع. علمت في ما بعد من المصادر الدولية المحايدة ان الاجتياح العسكري الاسرائيلي لسيناء في اتجاه قناة السويس وصل الى مضيق مثلا. وان قوة اسرائيلية اتجهت جنوبا نحو شرم الشيخ فاستولت عليها وأسرت الحامية المصرية المرابطة هناك.

لم يكن الشأن العربي ضمن اهتمامات العمل السياسي أو الاعلامي في باكستان. فقد كانت الدولة مأخوذة بهموم أعباء البناء الداخلي وبتبعات العمل السياسي في صراعها مع الهند حول كشمير ومأساة المهجرين. ولم أعلم إلا لاحقا بما كان لشرم الشيخ ومضائق تيران من موقع في الصراع العربي ـ الاسرائيلي واغلاق خليج العقبة في وجه الملاحة الاسرائيلية.

واستكمالا للعدوان الثلاثي على مصر، قامت القوات الفرنسية والبريطانية في اليوم التالي للاجتياح الاسرائيلي بإنزال جوي وأرضي على مدن القتال. وقاوم شعب مصر في مدن القتال ببسالة نادرة، الهجمة البريطانية ـ الفرنسية الشرسة. والتهب العالم العربي غضبا على هذا العدوان الثلاثي الآثم. وحظرت المملكة العربية السعودية تصدير النفط الى فرنسا وبريطانيا، وتكون رأي عالمي معادٍ لهذه المؤامرة الثلاثية مفضوحة النوايا، ورأى فيها خرقا فاضحا للقانون الدولي واستقواءً على بلد في أمر لا يبرر هذا العدوان عليه.

صحيح ان تأميم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لقناة السويس جاء على نحو مفاجئ أربك اوساط الحكم في فرنسا وبريطانيا، إلا ان هذا التأميم يظل عملا سياسيا، ذا تبعات مالية قابلا للحوار والأخذ والعطاء فيه لا سيما ان محادثات دولية رفيعة المستوى كانت تدور في هدوء سعياً وراء مخرج من هذه الأزمة.

كان كل واحدٍ من أطراف المؤامرة الثلاثية مسكونا بهاجس غير هاجس الآخرين لشن ذلك العدوان على مصر. كان الاستعمار الفرنسي في الجزائر قد أصابه الفزع والهيجان لمساندة مصر للثورة الجزائرية عبر وسائل الاعلام، حيث كانت اذاعات القاهرة تلهب مشاعر الثوار الجزائريين وتعزز فيهم روح المقاومة والنضال.

وكانت بريطانيا ترى في الرئيس عبد الناصر دكتاتورا يهدد مصالحها في الشرق الاوسط وأفريقيا، فضلا عما كان يحمله رئيس وزراء بريطانيا انتوني ايدن من عداء شخصي للرئيس عبد الناصر. وكانت اسرائيل مسكونة بهاجس لا يهدأ، تنام وتصحو عليه وهو رفع الحصار عن الملاحة الاسرائيلية في خليج العقبة عبر مضائق تيران.

على ان اطراف العدوان، وان اختلفت لديهم الاسباب في دواعي الاشتراك في هذه المؤامرة، فانهم يلتقون عند هدف واحد هو اسقاط نظام الحكم في مصر وتعريض هذا البلد العربي لأزمة داخلية تعصف بأمنه ومكونات استقراره.

أدانت الولايات المتحدة هذا العدوان، وزايد عليها الاتحاد السوفيتي بأن هدد بقصف عواصم الدول الثلاث، والدخول في الحرب إلى جانب مصر.

ومن غرائب السياسة وتناقضاتها، أنه في الوقت الذي كان فيه الاتحاد السوفيتي يصعد من إدانته لهذا العدوان، كانت دباباته ودبابات حلف وارسو تنفذ قمعاً دموياً وحشياً للانتفاضة الوطنية التي قام بها سكان يودابست عاصمة المجر، دفاعاً عن حريتهم. وقيل ان خمسة وعشرين ألفا قتلوا في ذلك القمع الدموي الرهيب.

لم يفطن أحدٌ لمأساةِ المجر، بل لم يعرها أحدٌ اهتماماً، والدنيا مأخوذة بالعدوان الثلاثي على مصر. وأشاحت واشنطن ببصرها عن هذه المأساة، وهي التي اعتادت أن تكون شوكة في حلق موسكو لأضعف الأسباب. فقد كانت في حاجة لتضامن الاتحاد السوفيتي معها في مواجهة العدوان الثلاثي على مصر.

ألم تكن السياسة دائماً معادلة لتبادل المصالح بين الأقوياء على حساب الضعفاء!؟

كما أن الولايات المتحدة التي رفضت المضي في وعدها تقديم قرض لمصر لبناء السد العالي، والذي من أجله قام الرئيس عبد الناصر بتأميم القنال، كانت أول المبادرين لإدانة هذا العدوان وانتهازه فرصة للقضاء على ما تبقى لفرنسا وبريطانيا من نفوذ في هذه المنطقة.

انتهى العدوان بانسحاب القوات الفرنسية والبريطانية انسحابا مذلاً مشينا في شهر ديسمبر (كانون الأول) من ذلك العام. ورفضت اسرائيل الانسحاب من سيناء إلى أن صدر قرار من مجلس الأمن بفتح مضائق تيران أمام الملاحة الاسرائيلية في خليج العقبة، ومرابطة قوة دولية في شرم الشيخ لضمان تنفيذ ذلك القرار. وانسحبت اسرائيل من سيناء في شهر مارس (آذار) 1957، وحققت بعدوانها هذا كسباً سياسياً واقتصادياً رغم أنوف العرب ولحاهم.. وأعلنت اسرائيل أن أيَّ محاولة من جانب مصر لاعادة إغلاق مضائق تيران ستعتبره إعلان حرب عليها.

في كتابه Battling For Peace (حرب من أجل السلام)، يتحدث السياسي الاسرائيلي شيمون بيريز، من خلال سيرته الذاتية، عن الدور المحوري الذي قام به في الإعداد للعدوان الثلاثي على مصر.

كان المنسق لاجتماعات ممثلي دول العدوان في ضاحية سيفر القريبة من باريس، والساعي بإصرار محموم لأن تستكمل المؤامرة عناصرها بالسرعة الممكنة. ويقول بيريز في إيراد بعض تفاصيل هذا الدور المحوري: إن بعضاً من التردد قد طرأ على الموقف البريطاني للاشتراك في هذا العدوان وأنه، أي السيد بيريز، كان على استعداد لأن يضحي بحياته ثمناً كي لا تعدل بريطانيا عن عزمها المضي في هذا العدوان حتى النهاية.

اعتاد بيريز أن يأتي إلى باريس ويجتمع بصديقه الرئيس الفرنسي الراحل السيد فرانسوا ميتران، كنت أشاهده وأنا سفير لبلادي في فرنسا، على شاشة التلفزيون أمام مدخل قصر الاليزيه أنيق المظهر، رصين العبارة يتحدث للصحافيين بما يشبه الهمس عن رغبة اسرائيل الصادقة في السلام كأنه قديس من القديسين! إنه سياسي ماكر، صهيوني الهوى والعقيدة والفعال. ولعل في قراءة كتابه ما يغني عن المزيد من الحديث..

نسيَّ العالم مضائق تيران في غمرة ما تلاحق من أحداث دولية مثيرة تحدد مصير هذا الكون ليومه وغدِهِ. ونسيت مصر مضائق تيران، بل ربما رأت في الوضع الدولي الجديد لهذه المضائق رفعاً لما كان يمارس عليها من ضغوط سياسية وأمنية مرهقة. على أن مضائق تيران لم تتوار عن دورها في صنع التاريخ. وظلت هادئة في انتظار الحدث الذي يدفع بها إلى واجهة الأحداث.

وجاء هذا الحدث يوم 22 مايو(أيار) 1967 عندما أعلن الرئيس جمال عبد الناصر قرار مصر بالعودة لإغلاق مضائق تيران في وجه الملاحة الاسرائيلية. ولما كان الخوض في خلفيات هذا القرار أمراً اختلف بشأنه الرواة فلا مجال هنا، إذن، للحديث فيه. على أني ما أزال أذكر، عندما دخل عليَّ مدير مكتبي، وأنا وزير الإعلام، وأطلعني على برقية من وكالة رويترز حول هذا القرار كيف كنت أردد عبارة «اللهم جييها على خير» فقد كانت نذر الحرب، آنذاك، تملأ الأرض والسماء.

وأدرك الرئيس عبد الناصر جسامة القرار الذي أقدم عليه. وحاول، تسانده بعض الأطراف الدولية، استدراك آثار هذه الأزمة الخطيرة إلا ان تداعيات الأزمة كانت تتلاحق بسرعة مذهلة تعذر معها اللحاق بها والسيطرة عليها.

كانت اسرائيل تبيت للعدوان على مصر، أكبر دولة عربية، كي تقصم بذلك ظهور العرب. وكانت في انتظار ذريعة سياسية وعسكرية تبرر هذا العدوان. وجاءت تلك الذريعة بالقرار الذي أصدره الرئيس وهتفت له الجماهير دون وعي بالمخاطر التي ينطوي عليها ذلك القرار. وحلت النازلة المدمرة صباح يوم الاثنين الخامس من شهر يونيو (حزيران) 1967، أي بعد اثنتي عشر يوماً من إغلاق مضائق تيران. وعادت الجماهير التي هتفت لذلك القرار، وبحياة صاحب القرار، إلى منازلها محزونة باكية لأمر لا ينفع فيه البكاء.

ومنذ ثلاثين عاماً والعرب ما يزالون يتساءلون: هل ستعود يوماً إلينا القدس والضفة الغربية والجولان!؟

استبدلت مصر الحرب بالسلام، ولم يعد شرم الشيخ معسكراً للمراقبين الدوليين بل تحول إلى موطن للمنتجعات السياحية الجميلة يرتادها المحبون للحياة من كل مكان. وما يزال الصراع العربي ـ الاسرائيلي حياً، قوياً في حضوره، خطيراً في إقراراته، عصياً على الحل.. نمسي ونصبح عليه. هذا ما تشهد به مضائق تيران.

* الأمين العام السابق لمجلس التعاون لدول الخليج العربية