الاستراتيجية في زمن الوفرة!

TT

إذا كان الارتفاع الكبير في أسعار النفط ليس فقط راجعا إلى قوى العرض والطلب في السوق الاقتصادية العالمية؛ وأنه بالإضافة إلى ذلك يرجع إلى سياسة متعمدة لخلق بدائل جديدة للبترول، وتقليل الاعتماد الغربي على منطقة الخليج والعالم العربي في هذه السلعة الحيوية، فإن على العواصم العربية المختلفة أن تفكر في استراتيجية مضادة تحافظ على مصالحها الحيوية. وبداية فإن الصراخ والضجيج والصخب حول من الذي يتحمل المسؤولية في الأوضاع الراهنة للشرق الأوسط أو في السوق العالمية لا يعد من قبيل الاستراتيجية في شيء، وهو قد يكون مخففا للغضب، أو مرضيا لجماعات داخلية يهمها الشعار بأكثر من النتيجة، أو يكون شاغلا لمئات الفضائيات التلفزيونية التي تتنافس على بكائيات الأحوال العربية في كل الأحوال، ولكن كل ذلك لن يحقق شيئا ملموسا علي أرض الواقع بشكل عام وعلى صعيد التوازن الاستراتيجي العالمي بشكل خاص.

وربما يكون علينا أن نتعلم كثيرا من درس عقد السبعينات حينما قفزت أسعار النفط مرتين في عامي 1973 و 1979 وارتجت على أثرها الدول الغربية والأسواق العالمية؛ وساعتها تولدت استراتيجيات غربية تقوم على زيادة الاحتياطيات الغربية من النفط، وزيادة التعاون بين الدول الغربية، والبحث عن مناطق جديدة للإنتاج خارج المنطقة العربية. وكانت النتيجة نجاحا ساحقا كما هو معروف عندما حدث انهيار هائل في أسعار النفط خلال الثمانينات، وانتقلت الدول العربية النفطية من الفائض إلى العجز، ومن الإقراض إلى الاستدانة؛ أما بالنسبة للدول العربية غير النفطية فقد أدى الواقع لفترة ركود طويلة. وبدون الدخول في مبالغات تأثير العامل الواحد، فإن هذا الانهيار في الأسعار ربما كان هو الذي وفر الأساس الموضوعي لنمو الحركات الإرهابية الأصولية وخلق إطارا من اليأس الذي كفى للفرار من الدول العربية إلى أفغانستان وغيرها.

هذه المرة فإن الاختبار قائم ولكن الاستراتيجية الغربية مختلفة فهي ترمي من ناحية إلى خلق بدائل للنفط من خلال جعل هذه البدائل أكثر اقتصادية؛ ومن ناحية أخرى على المدى الأبعد أن توفر أساسا موضوعيا للحجر على منطقتنا. ويعلم كل من يشاركون في المؤتمرات والمنتديات العالمية أن الغرب ـ وهو تعبير بات ممتدا لكل الدول التي تعتمد اقتصاد السوق أيا ما كان موقعها الجغرافي وثقافتها الخاصة ـ قد أصبح يائسا من القدرة على فهم العالم العربي. وربما كان تعبير «الاستثناء العربي» الشائع في الأدبيات السياسية والثقافية الغربية هو العنوان المعبر عن تلك الحالة من الحيرة واليأس من إمكانيات التغيير في هذه المنطقة من العالم بعد أن تغيرت كل مناطق وأقاليم العالم بشكل أو بآخر خلال العقدين الماضيين. وهو تعبير على أية حال يماثل بشدة التعبير المقابل له في الأدبيات العربية حول «الخصوصية» التي تعبر عن الاستثناء ضمن محتوى مضاد آخر. وما بين هذا التعبير وذاك توجد وتنمو أسوار وحواجز تلتف كلها تدريجيا لكي تقيم تلك الحالة من الحجر على أمة استغرب العالم أحوالها وفكرها.

هذا النوع من الحجر بدأ بالفعل يأخذ أشكالا متعددة، بدأت بالتواجد العسكري المباشر في المنطقة سواء في البحار والخلجان القريبة أو على البر مباشرة، وبالطبع فوق أجواء ممتدة حتى أجواز الفضاء. وبعد وجود العسكر في الجوار بدأت عملية بناء الأسوار بين العرب والعولمة، ولم يكن حرمان شركة موانئ دبي من إدارة الموانئ الأمريكية حسب الصفقة التي فازت بها إلا علامة على سيادة الشعار الذي يقول «نحن هنا وهم هناك»، وهو حرمان ممتد لحركة قبول الطلبة العرب في المعاهد والجامعات الغربية، وأكثر من ذلك تلك التعقيدات الجهنمية التي باتت مفروضة على كل طالبي تأشيرات الدخول من العرب إلى الدول الغربية والتي تجعل الحصول على لبن العصفور والخل الوفي وكل المستحيلات الأخرى أكثر سهولة من الوصول إلى عاصمة غربية. كل ذلك يحتاج استراتيجية مقابلة، ولو كانت هذه الاستراتيجية تقوم علي المعاملة بالمثل لكان ذلك تحديدا هو النجاح والانتصار لاستراتيجية الحجر والتي تقوم أساسا على الانقطاع وفك التواصل والاعتماد المتبادل. وفي هذه الحالة من العلاقات المنبتة فإن توازن القوى هو الذي يحكم النتائج، وهو توازن مختل في غير صالح العرب لأسباب يطول شرحها، ولكنه توازن شامل وممتد من القوة العسكرية وما هو أهم منها في القوة الاقتصادية والتكنولوجية، ولذلك فإن الاستراتيجية المقابلة لا بد لها ان تفرض تباطؤا في فك الارتباط من ناحية، وبناء المزيد من العلاقات والارتباط والتكامل من ناحية أخرى.

أعرف أن ذلك ليس هو المنطق العربي الشائع والذي يقوم على رد الصاع صاعين، والعين بالعين والسن بالسن والبادئ أظلم، وردع الحجر بالقدرة على الإيذاء من خلال رجال يحرصون على الموت بأكثر مما يحرص الآخرون على الحياة. ولكن مثل ذلك قد يكسب معركة، أو يسجل موقفا، أو يجعلنا نحصل على نبأ يشفي الغليل في الصدور ذات صباح، ولكن ذلك لا يكسب صراعا أو حربا، وبالتأكيد فإنه لن يجعل مجتمعاتنا أكثر تقدما مما هي عليه الآن؛ بل أنه من المرجح أن يكون كل ذلك هو الهدية التي تعطي مجتمعاتنا لأكثر من فيها تطرفا وهمجية. وعلى العكس من ذلك كله فربما كانت اللحظة مواتية أكثر من غيرها لكي نكسب أنفسنا ونكسب العالم معا خلال فترة تتميز بالوفرة النسبية من المال وهي التي تجعلنا نقوم بما يجب علينا القيام به بأقل قدر من الألم، وبأكثر درجات المرونة والحيوية. وما يجب علينا القيام به في المقام الأول أن نجعل عملية استبدال مصادر أخرى للطاقة بالنفط عملية أطول مدى وعمرا مما يعتقد الناس في الغرب. فمن الثابت أنه سوف يستحيل منع انجاز علمي للطاقة من تغيير العالم ومن ثم فلو أن بديلا ناجحا رخيصا حل فسوف تتغير الموازين عاجلا أو آجلا؛ ولكن من الثابت أيضا أن بديلا أكثر تكلفة سوف يظل محصورا ومحدودا لفترات طويلة حتى تنضج أسسه الاقتصادية. وما بين هذا الثابت وذاك توجد مساحة هائلة للحركة والمناورة بما فيها توطين عمليات بحوث الطاقة في المنطقة العربية مهما كانت مصادرها العلمية. وفي المقام الثاني فإن إنجاز مهام الإصلاح الداخلي سياسيا واقتصاديا واجتماعيا هو الذي من شأنه أن يفسد استراتيجي الحجر كلها ويجعلها لا تقوم على أساس وقد قامت على أن العالم العربي غير قابل ولا مستعد للإصلاح.

وفي وقت من الأوقات كان منطقيا للعالم العربي أن يقاوم ما طرحته الولايات المتحدة والدول الغربية ممثلة في الاتحاد الأوروبي والدول الصناعية الثماني تحت عنوان «الشرق الأوسط الكبير» أو الواسع أو العظيم، أيا كانت التسمية، ولكن الفكرة قامت على التغيير تحت الوصاية الغربية. هذه الفكرة فشلت فشلا ذريعا لأسباب متنوعة، كان منها أنها كانت مرفوضة من الحكومات العربية، كما كانت منها الحماقة وعدم الكفاءة التي تصرفت بها إدارة جورج بوش. ولكن الوقت الآن تغير، والاستراتيجية تغيرت هى الأخرى، وبالنسبة لنا يصبح الإصلاح ممكنا بدون وصاية وحسب مقاساتنا الوطنية التي نراها وفي ظل حالة من الوفرة المالية المعقودة لفترة زمنية معقولة. تفاصيل ذلك كثيرة، ولكن حسبنا طرح الاتجاه، فالحالة حرجة، والزمن كالسيف إن لم تقطعه قطعك، أو هكذا يقال!